تلك البلاد النائية (٤). كل هذا أدى لا إلى اتساع مدى المعلومات الجغرافية فحسب ، بل ترك فى الوقت نفسه أثره على الأدب الجغرافى فظهرت أشتات من المصنفات يتناول بعضها أوصاف الطرق بطريقة جافة ويحفل البعض الآخر بالقصص الممتعة التى تسمو أحيانا إلى مرتبة الأدب الفنى الصرف.
ولم يقف الدين عند فريضة الحج بل تطلب اهتماما خاصا بالجغرافيا الفلكية. فتحديد بداية الصوم ونهايته ومواقيت الصلوات الخمس استدعى معرفة جيدة بالفلك والرياضيات (٥). ولتحديد مواقيت الصلاة صنعت الساعات الشمسية الأفقية «البسيطة» التى استلزم تخطيطها معرفة دقيقة بخط عرض المكان المعين ، كما وأن تحديد ظل المزولة فى كل يوم استلزم عملية حسابية ودراية بالأمر (٦). وفى اللحظة التى يتجاوز فيها ظل العصر ظل منتصف النهار بمقدار «مقياس» (Gnomon) يبدأ ما يسمى بوقت العصر (٧). واختلفت القبلة فيما يتعلق بالصلاة أو ببناء المسجد من بلد إلى آخر وارتبط تحديدها بمعرفة خط طول وعرض (Geographical Coordinates) مكة والنقطة المعينة (٨).
ومن المسلم به أن تباين الظروف يؤدى إلى التنوع فى الصور الأدبية ، هذا إذا تركنا جانبا الميل إلى البحث والاستقصاء مما يتأتّى لجميع الشعوب والأجناس. وقد تردد صدى هذا التنوع فى الأسماء العديدة التى أطلقها العرب على علم الجغرافيا. ففيما يتعلق بالجغرافيا الفلكية ثبت فى العادة اللفظ اليونانى «جغرافيا» ، الذى ترجم أحيانا فى صورة أقرب إلى الفهم هى «علم الأطوال والأغراض» أو «علم تقويم البلدان» ، أما الجغرافيا الوصفية فقد أطلق عليها اسم «علم المسالك والممالك» ، وفى الحالات التى يدور فيها الكلام على مراحل الطرق بصورة خاصة أطلق عليها اسم «علم البرود». وإذا غلب الجانب الكوزموغرافى (Cosmographic) ـ أى فى وصف الكون ـ بما يصحبه من ميل واضح نحو العجائب والغرائب فقد استعملت تسمية «علم عجائب البلاد».
وتاريخ نشأة الأنماط المختلفة للأدب الجغرافى ليس أقل دلالة من مصطلح التسميات على التنوع فى البحث والأهداف. وفى هذا الصدد يمكن ملاحظة عصور محددة فى تاريخه ، فقبل القرن التاسع لم تكن هنالك مصنفات جغرافية قائمة بذاتها ، إنما تقابلنا من وقت لآخر معلومات جغرافية متناثرة حفظها لنا الأدب اللغوى فيما بعد أو تردد صداها فى الرحلات الخيالية. وقد كان القرن التاسع بحق عصر الانبثاق ، إذ تم فيه من ناحية التعرف على مصنفات بطلميوس وأدى هذا بدوره إلى ظهور الترجمات التى بدأت بها سلسلة الجغرافيا العلمية ، كما تشكلت فيه من ناحية أخرى الأنماط المتعددة للجغرافيا الوصفية. وقرب نهاية هذا القرن ظهرت المداخل الجغرافية التى وضع البعض منها لكتاب الدواوين والبعض الآخر للمشتغلين بالأدب ، كذلك تنوعت أوصاف الرحلات فغلب على بعضها العنصر الواقعى بينما احتفظ البعض الآخر بالطابع القصصى. أما القرن العاشر فهو العصر الذى بلغ فيه الأدب الجغرافى أوجه ، وذلك بظهور المدرسة الكلاسيكية للجغرافيين العرب بما تميزت به من اهتمامها