الفصل التاسع
البيرونى وجغرافيو القرن الحادى عشر بالمشرق
بدأ القرن الحادى عشر مشرقا بالنسبة للعلم العربى ؛ ففى عام ٣٩٠ ه ـ ١٠٠٠ أتم تأليف كتابه المشهور «الآثار الباقية» علامة شاب هو البيرونى ، وهو كتاب لا مثيل له فى جميع آداب الشرق الأدنى. وفى خلال نصف قرن تقريبا من هذا التاريخ لم يتوقف البيرونى عن تزويد مختلف فروع العلم بمؤلفاته العديدة التى يمكن القول بأنها بلغت ذروتها بكتابه عن الهند ، ذلك الكتاب الذى وصفه روزن منذ أكثر من خمسين عاما بأنه «أثر فريد فى بابه لا مثيل له فى الأدب العلمى القديم أو الوسيط سواء فى الغرب أو الشرق» (١). وقد أحس العلماء بسمو شخصية البيرونى العلمية منذ بزوغ فجر الاستعراب العلمى ، فكاترميرQuatremere قد لفت إليه الأنظار قبل روزن بنصف قرن تقريبا (٢). وكلما توسع العلم وتعمق فى التعرف عليه وعلى مصنفاته كلما بدت شخصيته أكثر عظمة وسموا. وفى أيامنا هذه أطلق سارطون على الفترة التى تشمل منتصف القرن الحادى عشر ، وذلك بالنسبة لتاريخ العلم العالمى ، اسم عصر البيرونى لأنه أكبر شخصية علمية عاشت فى ذلك الوقت. ولا تزال شخصيته العلمية آخذة فى النمو ، فقد تم العثور على مواد جديدة توكد أحقية هذا العالم الذى ينتمى إلى بلاد ما وراء النهر لكل ما ناله من تقدير وإجلال.
وحياة البيرونى أبعد من أن توصف بالهدوء والاستقرار ؛ ولا نملك إزاء هذا إلا الانحناء فى خشوع واحترام أمام النتائج العلمية الباهرة التى توصل إليها والتراث العلمى الحافل الذى أنتجه فى ظروف الزمان الذى عاش فيه. ولد البيرونى فى الثانى من ذى الحجة عام ٣٦٢ ه ـ ٤ سبتمبر ٩٧٣ (٣) بضاحية من ضواحى خوارزم ، ومنها أخذ نسبته البيرونى التى تنطق فى العربية بكسر الباء ولكن فى الفارسية تنطق الباء ممالة بعض الشىء (أى تليهاe ممدودة). ويمكن أن نجد إشارة إلى هذا فى إحدى النسخ التى كتبها بخط يده حيث يشكل اسمه بالعربية البيرونى أى بفتح الباء تليها ياء مسكّنة (٤) ، يريد بذلك على ما يظهر أن يبين الصوت الممدودe الذى لا يوجد فى الكتابة العربية. أما فى الاستعمال العربى العادى فقد سرى عليه اسم البيرونى بكسر الباء ، وهو الذى سنسير عليه أسوة بما حدث مع اسم المؤرخ الدينورى. والنسبة نفسها غير مستعملة كثيرا ، ولعله إلى جانب المعنى المعروف الذى يشير إليه السمعانى (٥) وهو «رجل الضاحية» ، تختفى إشارة ما إلى أصل مغمور لمؤلفنا. وعلى ضوء هذا فقد لا يكون من قبيل المزاح والفكاهة أبيات البيرونى التى حفظها لنا ياقوت والتى يقول فيها (٦) :