فى هذه الفترة بالذات عددا من المؤلفات الضخمة من بينها كتابه المشهور عن الهند. وإلى خليفة محمود وهو ابنه السلطان مسعود رفع البيرونى كتابه الكبير «القانون المسعودى». ويلوح أن وضعه آنذاك كان قد تحسن بعض الشىء فخصص له راتب منتظم وتمتع بحرية التنقل ، ومن ثم فقد استطاع فى حوالى عام ١٠٣٤ أن يزور مسقط رأسه خوارزم ، ولم نعد بعدها نسمع بشكاياته (١٤). والظاهر أن الأعوام الأخيرة من حياته كانت هادئة إلى حد ما ؛ وفى عهد مودود الذى خلف مسعود وضع البيرونى كتابه فى «الصيدنة» وهو آخر مؤلفاته الكبرى ؛ وتوفى البيرونى بغزنة فى الثالث من رجب عام ٤٤ ه الموافق ١٣ ديسمبر ١٠٤٨ (١٥).
وعلى الرغم من أن اسم البيرونى يجد مكانه فى الأدب العربى فى ميدان الجغرافيا والرحلات (١٦) ، إلا أنه كما يتبين لنا من المصنفات التى مر ذكرها فإن البيرونى لم يكن جغرافيا ؛ أو على الأصح لم يكن جغرافيا بقدر ما كان مؤلفا واسع المعرفة شمل نشاطه كل دائرة العلوم المعاصرة له والتى تحتل من بينها العلوم الرياضية والفيزيائية المكان الأول بالنسبة له ، بل وربما كانت أيضا العلوم التاريخية والطبيعية ليست أقل مكانة عنده من تلك ؛ ويوكد هذا رسائله الموجزة التى وصلنا منها نحو العشرين ، وأيضا ثبت مؤلفاته الذى وضعه بنفسه والذى يصل إلى عام ٤٢٨ ه ـ ١٠٣٧ (١٧). وقد بلغ محيط دراساته حدا أصبح معه من الأيسر تعداد فروع العلوم التى لم تجتذبه إليها عما اجتذبه فعلا. فلا نستطيع مثلا أن نلمس أثرا لاشتغاله بعلوم الشريعة ، ويبدو أنه لم يذهب فيها إلى أبعد من الحد المفروض على كل مسلم مثقف. وإذا كانت اللحظات الأخيرة من حياته قد أمضاها كما تقول إحدى الحكايات (١٨) فى فحص حالة معقدة تتصل بالتركات فهذا يمكن تفسيره بأن هذه الموضوعات بالذات كانت ترتبط بمسائل الرياضة والجبر ؛ وقد أولاها الخوارزمى الفلكى المعروف من قبل الكثير من الاهتمام. وكانت العلوم الاجتماعية تمثل عند البيرونى أهمية كبرى ، وهو نفسه لم يكن غريبا على الشعر كما يتضح من الأبيات الشعرية التى خلفها لنا ؛ وعلى أية حال فقد كان على معرفة جيدة بالشعراء ووضع فى ذلك بضع مصنفات لم تصل إلينا. ومعرفته بالشعر تنعكس بصورة أكثر وضوحا فى مؤلفاته ذات الطابع التخصصى ، ففى كتابه فى «الجواهر» مثلا يستشهد بما يقرب من ثمانين شاعرا عربيا (١٩). ولم تصلنا مؤلفاته التاريخية التى عالج فيها تاريخ الفرق وتاريخ موطنه خوارزم وتاريخ الغزنويين الأول ، وليس ثمة ما يوجب الكلام عن الأهمية القصوى التى كانت ستمثلها جميع هذه المؤلفات ولكن يبدو أنها أصبحت نادرة الوجود منذ عهد مبكر ؛ فياقوت ، وهو الذى كان على علم بكتاب البيرونى فى تاريخ خوارزم ، لم يكن هذا الكتاب فى متناول يده عندما دون معجمه الجغرافى (٢٠). ويبدو أن البيرونى لم يشعر بميل إلى الفلسفة المجردة ، وفقط من مراسلاته مع ابن سينا فى سنى الشباب يمكن الاستدلال على معرفته بها. وهو لم يعتبر نفسه ذا خبرة فى ميدان الطب خاصة الجانب العملى منه ؛ وفى آخر كتاب له وهو كتابه فى «الصيدنة» يوكد عدم عزمه على أن يمس مسألة الاستعمال الطبى للأدوية (٢١).