قليل من اللبس. هذه الطبعة التى تلتها الترجمة اللاتينية فى عام ١٦١٩ كانت أعجز من أن تلبى مطالب المنهج العلمى الحديث ، غير أن صعوبة هذه المهمة ترجع بلاشك إلى أننا لا نمتلك إلى الآن طبعة علمية كاملة لكتاب الإدريسى. وقد حالف التوفيق بصورة أكبر طبع أول كتاب فى الجغرافيا الفلكية وقد اضطلع بهذه المهمة العالم الهولندى الشهير للقرن السابع عشر ياكوب غوليس Jacob Golius (١٥٩٦ ـ ١٦٦٧) ؛ فالطبعة التى قام بتحضيرها للجداول الفلكية للفرغانى (القرن التاسع) ، المشهور فى أوروبا الوسيطة باسم الفرغانوس Alfragnus ، ظهرت مع ترجمتها اللاتينية فى عام ١٦٦٩ أى بعد وفاته ، وكانت بحق فاتحة عهد جديد فى هذا الباب. وبهذا وضعت أول لبنة فى أساس دراسة الأدب الجغرافى اعتمادا على مصادره الأصلية ؛ وقد سار التقدم بصورة بطيئة ، ففى القرن الثامن عشر بأجمعه لم يتعرف العلم الأوروبى إلا على ثلاثة مؤلفين فقط من رجالات القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، اثنان منهم وهما أبو الفدا (توفى عام ١٣٣١) وابن الوردى (توفى عام ١٤٤٦) اهتما بالجغرافيا العامة ، أما الثالث وهو عبد اللطيف البغدادى (توفى عام ١٢٣١) فقد اشتهر بوصفه لمصر. وقد استمرت المعرفة فى النمو بفضل ظهور المقتطفات والترجمات التى لا يمكن اعتبارها رغما عن ذلك علمية بشكل كاف.
وفى بداية القرن التاسع عشر ظهر بحثان ممتازان فى دراسة الأدب الجغرافى لا يزالا إلى اليوم محتفظين بقيمتهما ، أحدهما ترجمة وصف مصر لعبد اللطيف البغدادى الذى مر ذكره للتو ، وهى من عمل المستشرق الفرنسى الكبير سلقستر دى ساسى Silvestre de Sacy (١٨١٠) ، والآخر ترجمة المستشرق الروسى فرين Fra؟hn لرسالة ابن فضلان (١٨٢٣). وكلا البحثين يمكن اعتبارهما حجر زاوية فى بداية الدراسة العلمية للأدب الجغرافى العربى. وعند منتصف القرن التاسع عشر اشتدت الحاجة إلى مصنف عام يجمع شتات ما عرف حتى تلك اللحظة ، لذا فقد نال أهمية غير عادية كتاب رينوReinaud (١٨٤٨) الذى أراد به فى الأصل وضع مقدمة لطبعة علمية تامة لجغرافيا ابى الفدا ، ولكن البحث ما لبث أن استفاض وتجاوز حدود موضوعه؟؟ واتخذ صورة عرض عام مستقل لتطور العلم والأدب الجغرافى فى اللغات الثلاث الرئيسية للشرق الإسلامى. ويمثل الكتاب سفرا فى أكثر من أربعمائة وخمسين صفحة يتضح من خلالها معرفة المؤلف الجيدة بالجغرافيا الوصفية والفلكية ؛ ويستند المصنف على عدد من الأبحاث السابقة المستقلة للمؤلف نفسه ؛ وقد كتب بأسلوب شيق جذاب. وهو يمثل خطوة كبرى فى دراسة الموضوع ولم يأخذ مكانه إلى الآن مصنف من نوعه.
وفى النصف الثانى من القرن التاسع عشر تحقق فى لحظة واحدة تقريبا مشروعان ضخمان أصبحا بالتالى قاعدة متينة لدراسة الأدب الجغرافى العربى اعتمادا على أشهر مؤلفيه بين القرنين العاشر والثالث عشر. فبين عامى ١٨٦٦ و ١٨٧٦ نشر قستنفلدWüstenfeld المعجم الجغرافى لياقوت فى