فى التدريس (٢١) غير أنه كان ينتمى إلى وسط آخر سواء من ناحية أصله أو من ناحية شخصه. فهو لم يكن عالما متفرغا للحديث أو متفقها فيه بل كان أديبا ذا ميل واضح محدد نحو الموضوعات الأدبية ، لا يرفض حياة المتعة والخمر (٢٢) ، وكان موظفا كبيرا ودبلوماسيا كما كان وثيق الصلة بمعاصريه من الأدباء كابن حيان وابن خاقان اللذين عرفهما عن كتب (٢٣). ويرتفع نسبه إلى بكر بن وائل ، وكان جده وأبوه يوما ما أميرين على مدينتى ولبه Huelva وشلطيش (٢٤) Saltes على ساحل البحر المحيط إلى الغرب من اشبيليةSeville ؛ وقد اضطر أبوه إلى مغادرة إمارته عندما غلب عليها العباديون أمراء إشبيلية ورحل مع ابنه إلى قرطبة التى احتفظت بعد سقوط الأمويين بأهميتها حينا من الدهر كمركز ثقافى وكملاذ لأمراء الأقاليم الذين فقدوا سلطانهم. وهناك أتم البكرى دراسته بل وانتسب إلى المدينة فعرف أيضا باسم القرطبى. ونقابله بعد ذلك لفترة من الزمن وزيرا لأمير المرية ، وقد قام بمهمة دبلوماسية لدى بلاط الأمير الشاعر المعتمد بن عباد بإشبيلية. وبعد هزيمة الأخير على أيدى المرابطين Almoravides رجع البكرى مرة ثانية إلى قرطبة وظل يزاول نشاطه الأدبى بها إلى وفاته فى عام ٤٨٧ ه ـ ١٠٩٤ (٢٥).
ولم يتخذ اهتمامه بالجغرافيا طابعا مستقلا بل كانت تخضع إلى حد كبير لميوله الأدبية. وقد اشتهر البكرى كخبير فى الشعر والأدب الفنى اللذين أفرد لهما بعض الرسائل التى تنعكس فيها مجادلاته مع اللغوى الشهير للقرن العاشر أبى على القالى الذى نقل ثقافة بغداد الأدبية إلى الأندلس. وكان البكرى بطبيعته محبا للكتب فأولاها اهتماما متزايدا وكان يلفها فوق الجلدة بقطعة من النسيج «إكراما لها» كما قال هو نفسه (٢٦). ورغما من أنه لم يغادر الأندلس البتة إلا أنه ترك لنا مصنفين فى الجغرافيا تمتعا بشهرة عريضة.
أحدهما بعنوان «المسالك والممالك» نحا فيه المنحى القديم فى وصف الطرق والمراحل وبين فيه بلدان العالم الإسلامى المختلفة. ووفقا لتركيبه فهو كتاب جامع ولكن أسلوبه جاف ؛ وقد قصد به مؤلفه فى المكان الأول إرضاء مطالب الإدارة ولكنه لا يخلو من استطرادات ممتعة ويتضمن أحيانا وثائق هامة. ومن المستحيل نسبته إلى مدرسة البلخى ، وذلك لأسباب عديدة وليس فقط لأنه يخلو من الخارطات (٢٧). وكان الفراغ من تأليفه حوالى عام ٤٦٠ ه ـ ١٠٦٨ (٢٨) ؛ غير أن النص لم يحفظ لنا كاملا بالرغم من أن مخطوطاته استمرت تظهر إلى الآونة الأخيرة (٢٩) ، وكل ما تبقى منه هو أوصاف أفريقيا الشمالية ومصر والعراق وسكان نواحى بحر قزوين وبعض أجزاء أسبانيا ؛ وحتى هذا الموجود بين أيدينا لم يطبع بأجمعه. ومن أكثر أوصافه تفصيلا وصفه لأفريقيا الشمالية الذى أصبح فى متناول اليد بفضل طبعة وترجمة دى سلان De Slane (٣٠). وفيه تمكن البكرى من الإفادة من كتاب يحمل نفس العنوان لمؤلف سابق من أهل القرن العاشر هو ابن الوراق (٣١) الذى مر بنا الكلام عليه ؛ ومن هذا القسم يتضح لنا معرفة البكرى العميقة بالطرق وبكل الساحل بمرافئه وخلجانه العديدة. وفى مواضع أخرى توفرت لديه مصادر عديدة كمذكرات إبراهيم بن يعقوب فى وصف أراضى الصقالبة ، وهو القسم من كتابه الذى نشره