الأبجدية فى هذا الباب وإلا لما شرحها بمثل هذا التفصيل فى افتتاحيته ؛ ومهما بدت لنا هذه الطريقة سهلة ومطروقة فى العصر الحالى فإنه يجب ألا يغيب عن الذهن أن أول معجم جغرافى يظهر بأوروبا (وهو معجم أورتلى Ortelius) كان فى القرن السادس عشر (٤٥).
وكما هو الحال مع الخبراء الأول فى معرفة بلاد العرب القديمة فإن معجم البكرى ليس كتابا فى الجغرافيا بقدر ما هو كتاب لغوى ، ولا يعالج جميع البلدان المعروفة بوجه عام مثل ما يعالج جزيرة العرب بوجه خاص. فهو قد جهد قبل كل شىء فى استغراق الأسماء الواردة فى القرآن والحديث وفى الشعر القديم وقصص المغازى الأولى وذلك عن طريق شرح الشواهد المتعلقة بها. وهذا المعجم الذى ورد نظام ترتيبه مشروحا مفصلا فى الافتتاحية يبدأ بمقدمة كبيرة تبحث فى حدود الجزيرة العربية ومناطقها ونواحيها كالحجاز وتهامة واليمن ؛ وفى القسم الثانى من المقدمة يرد الكلام على القبائل العربية المستوطنة بها وعن هجراتها. وقد كانت الافتتاحية مصدرا لبحث خاص للعلامة فستنفلد الذى يدين له العلم بطبعة كاملة للمعجم.
نال المعجم تقديرا كبيرا لدى الجيل الأول من المستشرقين فى القرن التاسع عشر فاعتبره دوزى فريدا لا يمكن مقارنته بشىء آخر (٤٦) ؛ ولا شك أننا نوافقه فى أنه يمثل مرجعا لا غناء عنه لكل من يشتغل بالتاريخ العربى القديم والجغرافيا والشعر الجاهلى ، ولكن يجب أن نعترف فى ذات الوقت بأنه إنما يعتمد فى الغالب على المادة المدونة وأن المكانة الأولى فيه تشغلها جزيرة العرب. ومن المنطقى أن يخمل ذكره وتتضاءل قيمته منذ أن أصبح معجم ياقوت فى متناول الأيدى ، لأن الأخير يفوقه بشكل ملحوظ سواء فى اتساع ملاحظاته المباشرة أو فى اهتمامه بجميع البلدان عل قدم المساواة أو فى ضخامة المادة التى ينقلها عن المؤلفين الآخرين. ومن الطريف أن نلاحظ أن ياقوت كان على علم بهذا المعجم ولكن لم يستطع الإفادة منه مباشرة ، وهو يقول ما نصه : «ولم أره بعد البحث عنه والتطلب له» (٤٧). وهو من وقت لآخر يورد ذكره عن مصادر أخرى (٤٨) ، واستشهاداته من البكرى كثيرة (٤٩) ولكن نظرا لأنه يتحدث أحيانا عن كتابه الآخر «المسالك والممالك» (٥٠) فمن الراجح أن يكون قد أخذها بأجمعها من هذا المصنف الأخير. وإذا حدث وأن وقفنا موقف التحفظ من شهادة دوزى الحماسية عن البكرى فإنه يتحتم علينا موافقته فى أن البكرى هو أكبر جغرافيى الأندلس ، ولو أنه يجب أن نستدرك على ذلك بإضافة «أى للمدرسة اللغوية».
ويجب ألا يقتصر الاستدراك على لفظ الأندلس وحدها ، ذلك أنه منذ القرن الخامس الهجرى (الحادى عشر الميلادى) ظل عدد كبير من المصادر الأدبية ، وبوجه خاص التاريخية ، يقدم مادة جغرافية ، إلا أن الأدب الجغرافى نفسه بدأ يتخذ شيئا فشيئا طابع التجميع لما خلفه المؤلفون السابقون. ولم بلبث حجم هذه المادة أن تزايد بشكل ملحوظ بحيث تولدت الرغبة فى توحيد جميع المعطيات التى جمعتها الأجيال