السابقة بطرق شتى فى قالب أدبى. ومما زاد فى تعقيد المسألة أن مفهوم الوحدة الجغرافية للعالم الإسلامى انكمش شيئا فشيئا نتيجة لاختلاف المصير التاريخى الذى أحاط بكل قطر من أقطاره. وإلى جانب كل هذا فقد قوى الاتجاه نحو الغريب والخارق والخارج عن المألوف. بنفس الصورة التى انعكس فيها هذا فى المصنفات الجغرافية المتأخرة التى ظهرت باللاتينية فى أوروبا الوسيطة (٥١).
ولعل الجهد فى البحث عن نمط جديد يمكن تفسيره على ضوء ظهور اتجاه جديد فى هذا العصر يرمى إلى الربط بين الجغرافيا الوصفية والجغرافيا الفلكية مرة أخرى. وهذا الاتجاه يبدو واضحا عند الإدريسى بالذات ، ولكن يقابلنا أيضا عند غيره ليس بدرجة أقل. وقد حدث أن مر بنا فى أحد الفصول الأولى من هذا الكتاب ذكر الزهرى جغرافى الأندلس لمننصف القرن الثانى عشر وكيف ركّز جهده فى وصف ما سميت «بالخارطة المأمونية للعالم». وكما رأينا فإن تقسيمه الأرض إلى ستة أقاليم تحبط بإقليم سابع يقع فى مركزها وينقسم كل منها إلى ثلاثة أقسام إنما يرجع فى الأرجح إلى النظريات الإيرانية القديمة عن السبع كشورات التى تنعكس فى إحدى خارطات البيرونى. ومما يدعو إلى الأسف أن تحليل هذه المشكلة يزيد من صعوبته عدد من النقاط الغامضة التى تحيط بالمؤلف نفسه ، وأيضا ذلك اللبس الذى يكتنف مخطوطات مصنفه (٥٢) ؛ وعلى أية حال فقد ثبت فى الآونة الأخيرة أن اسمه هو محمد بن أبى بكر الزهرى ويظن أنه عاش بغرناطة حوالى عام ٥٣٢ ه ـ ١١٣٧ ؛ ولما لم تكن الآراء متفقة اتفاقا تاما حول اسمه فإن البعض يدعونه وفقا لرأى دوزى بمؤلف المرية المجهول Anonyme d\'Almerie (٥٣). والمقتطفات التى نشرت عن مخطوطاته المختلفة تتناول بوجه خاص مراكش والأندلس وصقلية (٥٤) ؛ وقد أفرد لأسبانيا فى مصنفه عناية أكبر ، أما تبويب الكتاب فيتمشى برمته مع وصف الأقاليم على التوالى ، كما يبدو من معطياته فى الجغرافيا الفلكية ميل واضح إلى جميع أنواع العجائب (٥٥) ؛ وهو فى هذا الصدد يقص علينا حكاية من أكثر الحكايات تفصيلا وقيمة ، تلك هى أسطورة الشجرة المسحورة بجزائر واق الواق بالصين التى تثمر أشجارها كل عام نساءا بدلا من الفاكهة (٥٦).
وخير مثال لمحاولة التقريب بين الجغرافيا الوصفية والفلكية ، وهى محاولة لم تكلل بالنجاح التام ، هو كتاب الإدريسى Idrisi (أوEdrisi كما تعود أن يكتبه الأوروبيون منذ القرن السابع عشر). وهو أبعد من أن يكون أكبر الجغرافيين قاطبة داخل الإطار العام لتطور الأدب الجغرافى العربى ، بل ولا نستطيع أن نضعه فى مصاف العلماء المبرزين الممتازين ، ورغما عن ذلك فكتابه أكثر الكتب الجغرافية باللغة العربية رواجا وصيتا فى أوروبا ؛ إذ ليس هناك مؤلف حفظ لنا معطيات وافرة ذات قيمة كبرى عن بلاد الغرب كما فعل الإدريسى. وقد مر وقت كان فيه الممثل الوحيد للأدب الجغرافى العربى (٥٧) فى الدوائر العلمية الأوروبية ، أضف إلى هذا أنه لم يظهر مصنف مماثل له فى وسط مثل الوسط الذى ظهر فيه ، وهو ذلك الوسط الفريد نصف العربى ونصف الأوروبى الذى تقدمه لنا صقلية فى ذلك العهد.