ورغما عن هذا الاهتمام الكبير بالإدريسى ، والذى يرجع إلى عهد قديم ، فإن معلوماتنا عن سيرة حياته نزرة للغاية ، وهى جميعها فى جوهرها إما أن تكون قد استمدت من نفس كتابه أو أنها تمثل روايات ترددها الأحاديث المنقولة وظل مصدرها مجهولا بالنسبة لنا.
وينتمى أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس إلى بيت الأدارسة العلويين الذين طالبوا وقتا ما بأحقيتهم فى الخلافة ، وهذا السبب فقد اشتهر مؤلفنا باسم الشريف الإدريسى. وكان مؤسس دولة الأدارسة وهو إدريس الأول قد هرب من المشرق إلى مراكش وأسس إمارة مستقلة بنواحى سبتةCeuta عام ١٧٢ ه ـ ٧٨٩ ، ونال الشهرة بعد وفاته عام ١٧٧ ه ـ ٧٩٣ كولىّ ولا يزال يتمتع بهذا الصيت فى أفريقيا إلى أيامنا هذه. ويرتبط باسم ابنه إدريس الثانى (١٧٧ ه ـ ٢١٣ ه ـ ٧٩٣ ـ ٨٢٨) تأسيس مدينة فاس ؛ ولم تعمّر دولتهم لأكثر من عام ٣٧٥ ه ـ ٩٨٥. أما أجداد الإدريسى المباشرون فكانوا أمراءا صغارا بمالقةMalaga ، وهم أيضا لم يستطيعوا الاحتفاظ طويلا بسلطانهم فاضطروا إلى الرجوع إلى سبتة فى القرن الحادى عشر ، وهناك فيما يبدو ولد الإدريسى فى عام ٤٩٣ ه ـ ١١٠٠ (٥٨).
ويلوح أن صلة الأسرة بالأندلس لم تنفصم فالإدريسى نفسه تلقى العلم بقرطبة التى ظلت مركزا ثقافيا كبيرا. وهو قد عرف قرطبة معرفة جيدة ، فالوصف الشامل الذى أفرده لها فى كتابه يحمل جميع آثار المعرفة المباشرة بالمدينة (٥٩). وقد بدأ الإدريسى أسفاره منذ سن مبكر فزار أماكن لم تكن مألوفة فى ذلك العصر. ومعرفته الواسعة بأسبانيا ومراكش ليست أمرا غريبا ، ولكن يبدو من مواضع مختلفة من كتابه أنه زار لشبونة وسواحل فرنسا بل وانجلترا ؛ وفى عام ٥١٠ ه ـ ١١١٦ ، وهو لما يتجاور السادسة عشرة من عمره زار آسيا الصغرى. وهذا جميع ما أمكن استنتاجه بالتحديد بشأن رحلاته ؛ والظاهر أنه لم ير بقية أفريقيا وآسيا. وفى عام ١١٣٨ عبر البحر فى ظروف يشوبها الغموض إلى جزيرة صقلية حيث كان يوجد بلاط روجر الثانى ببالرمو ؛ وقد ظل الإدريسى وثيق الصلة بروجر إلى وفاة الأخير فى فبراير من عام ١١٥٤ (٦٠) ؛ ثم مرت عليه وهو بصقلية لحظات قلقة فى عهد خليفة روجر ، ولكنه رجع فى أيام شيخوخته فيما يبدو إلى مسقط رأسه سبتة وتوفى بها فى عام ٦٥٠ ه ـ ١١٦٠ على أرجح الأقوال (٦١).
وبمدينة بالرمو تقترن ذكرى أنضر فترة فى حياة الإدريسى ، وببالرمو أيضا يقترن كتابه الكبير «نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق» (٦٢). وقد انبعثت فكرة الكتاب فى عصر ازدهار حضارة صقلية تحت حكم النورمان ويرجع الفضل فى ظهوره إلى روجر الثانى نفسه. ويوكد هذا القول كلام المؤلف نفسه فى مقدمة الكتاب حيث يبين فى وضوح وجلاء دور الملك النورمانى فى ذلك ، ويصف لنا بالكثير من الحيوية الظروف الفريدة التى تم فيها تنفيذ هذه الفكرة الرائعة لإخراج مصنف جامع فى الجغرافيا. ففى خاتمة تمجيده لراعيه وولى نعمته يقول الإدريسى :