أما ألمانيا وبولندا وروسيا فإن وصفها يرد فى دقة أقل بكثير ولو أنه لا يخلو من اشتماله على مجموعة من المعلومات الهامة (٩٦). وقد ظفرت رومانيا وسائر شبه جزيرة البلقان بتفصيل كثير ربما مرده إلى الحملات الصليبية التى كانت قد بدأت منذ عام ١٠٦٤ ، وأيضا إلى نمو العلاقات التجارية بين الغرب الفرنجى ـ الرومانى والشرق الإغريقى ـ الصقلبى (٩٧).
ويمكن اعتبار تحليل توماشك Tomaschek لرواية الإدريسى عن البلقان أنموذجا لبقية أقطار أوروبا. فمادة الإدريسى فى هذا الصدد تمثل فى جوهرها تقريرا عن الأحوال التجارية ، فضلا عن أن الطرق التى يصفها هى بدورها الطرق التجارية (٩٨). وكانت شواطىء نهر الطونه Danube فى عهد الإدريسى تتمتع بشىء من الهدوء فكان يرد إليها بالتجارة مختلف الشعوب كالإغريق والبلغار والولاخيين (الأفلاق) Wallachians والقومان Komans (١). وفيما بعد لعبت دورا كبيرا فى تلك التجارة الجمهوريات البحرية مثل البندقيةVenice وجنواGenoa وتلتهماراغوزةRagusa ؛ ثم أخذ طرفا بالتدريج تجار روسيا وبولندا والمجر وتلتها النمسا وبقية البلاد الألمانية إلى حدود الفلاندرFlanders (٩٩). وقد استطاع الإدريسى أن يكوّن فكرة عن أهم المراكز والطرق التجارية برومانيا من خلال استماعه إلى روايات التجار من العرب واليهود والإغريق والفرنجة ؛ وتمثل روايته فى هذا الشأن محاولة مبكرة لم يستطع أن يقوم بها أحد فى بيزنطة فى ذلك العهد بالرغم من مجاورة بلادهم لتلك الأصقاع ؛ وهى لن تفقد قيمتها على مر الزمن (١٠٠). ومعطياته عن الجغرافيا الطبيعية للبلقان طفيفة ولكنه يقدم لنا الكثير فى مجال التاريخ ، وأكثر من ذلك فى وصف الوضع الاقتصادى للإمبراطورية البيزنطية وبلغاريا فى القرن الثانى عشر (١٠١). ولم يخل الأمر بالطبع فى حالات معينة من ضرورة إيضاح بعض المسائل الغامضة ؛ مثال ذلك أنه من غير المستطاع الاعتماد على الإدريسى فيما يتعلق بتحديد المسافات والأبعاد بوجه خاص (١٠٢). وهو حين يتكلم عن الميل لا يتضح دائما ما إذا كان يقصد بذلك اللوغاLeuga الفرنجية أم الميلياMiglia الإيطالية أم الميل العربى (١٠٣). كذلك يحيط نفس هذا الاضطراب بمفهوم مرحلة الطريق لديه وهى التى كان يستعملها جنبا إلى جنب مع الميل. وعلى أية حال فقد أثبت توماشك بصفة عامة أنه فيما يتصل بالمسافات القصيرة فإن الميل يساوى لديه ألفا وخمسمائة وخمسة وخمسين مترا (أى أنه أقل من الميل العربى المعتاد الذى يبلغ طوله ألفا وثمانمائة وثمانية وسبعين مترا) ، بينما تبلغ المرحلة البحرية نحوا من المائة ميل فى اليوم (١٥٥ كيلومترا) (١٠٤). وفى تحديده للطريق البرى بين كييف Kiev وفلاديمير فولنسكى Vladimir Volynskl وكّدلفتسكى Lawicki صحة مقاس الميل (١٠٥) ولكنه اختلف فيما يتعلق بمقاس المرحلة اليومية ، إذ لا يمكن فى رأيه أن تتجاوز العشرين ميلا (١١ و ٣١ كيلومترا) (١٠٦).
__________________
(*) شعب من العنصر التركى كان يقطن سهوب روسيا الجنوبية وعرفه الروس باسم البلوقتسيين Polovtsi وعرفته المصادر الإسلامية باسم القپچاق. أما اسم القومان فهو الموجود بالمصادر البيزنطية واللاتينية. (المترجم)