الفصل الثانى عشر
ياقوت ومؤلفو النصف الأول للقرن الثالث عشر
يعتبر الغزو المغولى حدا فاصلا فى تاريخ القسم الشرقى من العالم العربى ؛ فابتداء من تلك اللحظة أخذت مراكز الحضارة الإسلامية تتزحزح بسرعة نحو الغرب ولم تلبث بغداد التى كانت حتى تلك اللحظة محتفظة بمكانتها كمركز علمى رغما عن التدهور السياسى للخلافة العباسية ، أقول لم تلبث بغداد أن تنازلت عن ذلك المركز لحلب ودمشق ثم بصورة نهائية للقاهرة. ومن الممكن عمل خلاصة وافية لكل فرع من فروع العلوم فى العالم الإسلامى فى منتصف القرن الثالث عشر ، غير أنه لم يحدث فى الواقع أن اهتم العلماء لذلك باستثناء ياقوت ؛ فهو قد أحس إحساسا صادقا بالحاجة إلى مرجع عام يجمع شتات المادة الجغرافية المعروفة لعصره. وقد حدث فعلا أن هلك جزء كبير من المادة التى كانت تحت تصرفه فى خضم المصيبة الكبرى التى اجتاحت العالم الإسلامى.
وأهمية معجم ياقوت تتجاوز بكثير حدود الأهداف الجغرافية الضيقة ، فهو فوق ذلك يمثل آخر انعكاس لتلك الوحدة المثالية للعالم الإسلامى تحت حكم العباسيين ، رغما من أنها كانت فى واقع الأحوال أثرا من آثار الماضى. وهو أوسع وأهم ، بل وأكاد أقول أفضل مصنف من نوعه لمؤلف عربى للعصور الوسطى (١). ولتكوين فكرة عن حجمه يكفى أن نذكر أن المتن المطبوع يضم ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعا وتسعين صفحة. وهو جماع للجغرافيا فى صورها الفلكية والوصفية واللغوية وللرحلات أيضا ، كما تنعكس فيه الجغرافيا التاريخية إلى جانب الدين والحضارة والاثنولوجيا (Ethnology علم الأجناس والفصائل البشرية) والأدب الشعبى (Folklore) والأدب الفنى وذلك فى القرون الستة الأولى للهجرة. ويقرب عدد الشواهد الشعرية وحدها فيه ، وذلك بين صغيرها وكبيرها ، من الخمسة آلاف (٢) استطاع الناشر أن يحقق منها ما يقرب من ثلاثة آلاف من المصادر الأخرى.
ورغما من القيمة الأدبية الكبرى لهذا الأثر فقد تعرف عليه العلم الأوروبى بعد مدة طويلة من تعرفه على الإدريسى وأبى الفدا خاصة ، وهذا الأخير هو الذى استمرت له السيطرة دون انقطاع إلى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا. حقا إن اسم ياقوت قد ورد ذكره من وقت لآخر لدى علماء مدرسة الاستشراق الهولندية مثل غوليوس Golius فى طبعته للفرغانى (١٦٦٩) أو غرونوفيوس Gronovius (١٧٠٣) الذى لفت إليه الأنظار فى بحثه عن «نشأة وتطور وفائدة الجغرافيا» (٣)