وأيضا موسى بن ميمون. وبمصر شهد عبد اللطيف المجاعة الهائلة والوباء الفتاك الذى حدث عام ٥٩٧ ه ـ ٥٩٨ ه ـ ١٢٠٠ ـ ١٢٠٢. وفى عام ٦٠٤ ه ـ ١٢٠٧ نقابله مرة أخرى بحلب ومن هناك ذهب فى رحلة إلى آسيا الصغرى استمرت عدة أعوام ، وأمضى بعض الوقت ببلاط أمير أرزنجان قرب أرضروم. ومن المحتمل أنه فى أثناء رحلته هذه تعرف عن كتب على أخبار المغول ، وقد حفظ لنا المؤرخ الذهبى (توفى عام ٧٤٨ ه ـ ١٣٤٨ (٥٣)) كثيرا من رواياته عنهم. ورجع عبد اللطيف إلى بغداد فى شيخوخته وتوفى بها عام ٦٢٩ ه ـ ١٢٣١.
وكان عبد اللطيف رجلا جم المعرفة ضاربا فى جميع فروع العلم بسهم ، كما كان عالما دقيق الملاحظة فهو بهذا يمثل طراز العالم المحقق الذى يتوق إلى المعرفة الإيجابية مع ميل واضح إلى التجربة العلمية. ولم تقتصر معرفته على مصنفات العرب وحدهم بل عرف مصنفات اليونان خاصة أرسطو وديوسقوريدس وجالينوس. ولم يزاول مهنة الطب فقط بل كان أيضا بحاثة فى العلوم الطبيعية عامة ، وهو قد طبق نظريات جالينوس على الموميات الموجودة بمصر وصحح بعض معطياته فى التشريح. وقد تمكن بعد معاينة مومياء من بوصير أن يثبت على نقيض جالينوس أن الفك الأسفل لا يتكون من عظمين بل من عظم واحد (٥٤). ومثل هذا الاهتمام وتلك المقدرة فى التحليل الدقيق يسود جميع ملاحظاته سواء عن الطبيعة أو عن الناس فى جميع الملابسات.
وعدد مصنفات عبد اللطيف كبير بعضها فى العلوم الفقهية والأدب والبعض الآخر فى العلوم الطبيعية بالمفهوم الواسع للفظ كالنبات والطب والتشريح. غير أن شخصيته تنعكس بصورة جلية فى أثره المعروف لنا أكثر من غيره والذى يتصل اتصالا مباشرا بالأدب الجغرافى ، أعنى بذلك سفره الصغير عن مصر الذى عرفه العلم الأوروبى منذ نهاية القرن الثامن عشر والذى يحمل عنوان «كتاب الإفادة والاعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر». وكما يقرر عبد اللطيف نفسه فإن كتابه ليس سوى ملخص لمصنف كبير له فى نفس الموضوع وأنه بدأ تأليفه فى رمضان عام ٦٠٠ ه ـ ١٢٠٤ بالقاهرة وأتم تهذيبه ببيت المقدس عام ٦٠٣ ه ـ ١٢٠٦ ورفعه إلى أحد خلفاء صلاح الدين وهو أخوه الملك العادل «لئلا ينطوى عن العلوم الشريفة شىء من أخبار بلاده وإن تراخت أو يخفى بعض أحوال رعاياه وإن تناءت» (٥٥).
وينقسم الكتاب إلى مقالتين تنقسم كل منهما إلى بضعة فصول ، الفصل الأول من المقالة الأولى يقدم ملاحظات عامة عن مصر ، طبيعتها وسكانها ؛ والثانى والثالث يصفان نباتها وحيوانها ، وقد أثبتت الأبحاث الخاصة فى تاريخ النبات أنهما يحتويان على معطيات ذات قيمة كبيرة (٥٦). أما الفصل الرابع فطريف جدا فى فكرته إذ يصف فيه عبد اللطيف آثار مصر القديمة ، وكما هو معروف فإن الاهتمام بالآثار القديمة (الأركيولوجياAchaeology) نادر ما وجد بين العرب ، وفى هذا المضمار يمثل