عبد اللطيف حالة استثنائية. وأطرف من هذا أن عبد اللطيف يعترض على التخريب الوحشى للآثار القديمة وإتلافها كما يعترض أيضا على البحث عن الكنوز القديمة الذى يستند على الأساطير والمعتقدات الباطلة. وفى الفصل الخامس يصف الأبنية فى مصر المعاصرة له وأيضا السفن ، بينما يبحث الفصل السادس فى صنوف الأطعمة والمأكل. أما المقالة الثانية من رسالته فتحتوى على ثلاثة فصول فقط ، الأول منها مكرس للنيل وفيه ينتقد عبد اللطيف مرة أخرى بعض المعتقدات الباطلة السائدة عن منابعه وعن أسباب حدوث الفيضان ؛ وقد حاول عبد اللطيف أن يقيس ارتفاع الفيضان كل عام على أساس الملاحظة المتتابعة. أما الفصلان الأخيران فيقدمان وصفا حيا لا يخلو من الرهبة لحوادث ٥٩٧ ه ـ ٥٩٨ ه ـ ١٢٠٠ ـ ١٢٠٢ التى اجتاح فيها مصر قحط هائل ووباء مروع. وقد دفعته نزعته العلمية كطبيب وبحاثة إلى الاحتفاظ بقوة ملاحظته ورباطة جأشه ، فهو يصف لنا بهدوء وبدقة تامة الحالات الرهيبة لأكل لحوم البشر وكيف كانوا يختطفون الأطباء الذاهبين لعيادة مرضاهم وكيف أحرق المجرمون الذين ثبتت عليهم تهمة أكل الغير وكيف وجدت جثث هؤلاء المجرمين مأكولة فى الصباح. وفى جميع هذه الظروف المروعة لم يفقد عبد اللطيف حب الاستطلاع وروح البحث المتأصلين لديه فأجرى عددا من الملاحظات التشريحية والطبية. ولا يزال كتابه فى هذا الصدد محتفظا بقيمته كوثيقة إنسانية حية. وهو مهم ليس فقط من وجهة النظر الجغرافية الصرفة بل كوصف للأحوال التاريخية والاجتماعية لعصره ، ناهيك ما يحفل به من مسائل علمية متنوعة.
وقد تعرف الاستعراب الأوروبى على هذا الأثر مبكرا وأولاه اهتماما جديرا به منذ الخطوات الأولى فى تاريخ تطوره ؛ فمنذ مستهل القرن السابع عشر جلب مؤسس الاستعراب الإنجليزى بوكوك الأكبرE.Pococke مخطوطة قديمة جدا من الشرق ، وهى موجودة الآن بالمكتبة البودليةBodleyan. وكان يحلم هو وخلفاؤه بنشر هذا الأثر وترجمته ، بل وبدأوا فعلا ذلك أكثر من مرة ، ولكن يلوح أنه قد أحاطت بهذا الأثر طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر لعنة شريرة (٥٧) فلم تظهر الطبعة التى أعدها وايت White إلا عام ١٧٨٩ (٥٨) ، وأعيد طبع المتن مرة ثانية فى عام ١٨٠٠ (٥٩) وعنها ترجم الكتاب مرتين إلى الألمانية ومرة إلى اللاتينية ، كما نشرت وترجمت معه سيرة عبد اللطيف البغدادى لابن أبى أصيبعة. ولم يلبث أن توّج هذا المجهود فى آخر الأمر بظهور ترجمة علمية مصحوبة بالشروح والتعليقات لسلفستر دى ساسى Sylvestre de Sacy (١٨١٠) ، أعنى بذلك بحثه المشهور «Relation d\'Egypte». وهى محاولة كانت بالنسبة لعصرها شيئا ممتازا ، ولا يزال بحثه يحتفظ إلى الآن ببعض الأهمية التى يتمتع بها الأثر نفسه ، بل إن روزن لم يجد كفئا له فى أوائل القرن التاسع عشر إلا بحث فرين المشهور عن ابن فضلان. وكان آخر من اهتم بتقدير الأثر حق قدره ممثلو النهضة الأدبية العربية المعاصرة الذين احتذب أنظارهم عبد اللطيف بشكل خاص فى السنوات الثلاثينات فأفرد له النقادة المعروف سلامة موسى