وكان أول عالم يتعرف عن كتب على كتاب ابن المجاور هو اشبرنجرSprenger ، فقدره حق قدره (١٨٦٤) ووضعه أحيانا جنبا إلى جنب مع المقدسى (٧٩). وابن المجاور قد زار تقريبا جميع النواحى التى وصفها ، ووصفه لبلاب العرب الجنوبية لا يعتمد على وصف المقاطعات والنواحى بل وصف الطرق فيورد المسافات ويذكر آثار كل منزلة ويتحدث عن أخلاق السكان وعاداتهم ويسجل الروايات والأساطير المحلية التى يشعر بميل شديد نحوها. ومعرفنه بالتاريخ القديم ليست كبيرة فهو ليس بعالم نقلى ؛ وارتياب اشبرنجر فى معرفته بالأدب الجغرافى السابق له (٨٠) قد خفف منه دى خويه De Goeje كثيرا ، فقد اتضح له أثناء اشتغاله بإعداد ذلك الأثر للطبع أن عددا من المصادر المكتوبة التى يرجع إليها ابن المجاور تدل على اطلاعه الواسع فى ذلك الأدب (٨١) وعلى معرفته العميقة لا بالشعر العربى وحده بل وبالفارسى أيضا (٨٢). وقد مكنته رحلاته البحرية من معرفة تلك المراجع الفريدة المعروفة باسم الراهنامجات (أى المرشدات الملاحية) التى ألقى ضوءا على أهميتها المستشرق الفرنسى فيران Ferrand (٨٣). وكان ابن المجاور على معرفة دقيقة بخطوط الملاحة فيورد مثلا ذكر المسافة بين نجران ببلاد العرب الجنوبية وجاوه (٨٤) ؛ ويلوح أنه كان مولعا أشد الولع بالمسائل الملاحية وحفظ لنا شهادة فريدة ذات قيمة كبرى كما برهن فيران عن وجود أسطول ملغاشى قوى فى الأزمنة القديمة (٨٥). غير أن أهمية ابن المجاور لا تقوم على هذه المعلومات المدونة بل على أساس ملاحظاته المباشرة عن الحياة العامة ، ومن العسير أن نلتقى بهذه الكمية الضخمة من المعطيات الطبوغرافية والحضارية والأسطورية لدى أى مؤلف آخر. وهى جميعها تكشف عن معرفة عميقة بالهند خاصة فى محيط الأثنوغرافيا والأدب الشعبى (الفولكلور) (٨٦) ؛ وهو يصف بالتفصيل عادات الزواج وطقوس العرس فى زبيد باليمن (٨٧) ؛ وفى بلد كمكة (٨٨) كما يسرد بحيوية فائقة التقاليد البدائية لقبيلة بجيلة التى تقطن محلة السرو بين الطائف وتبالة (٨٩). وجميع هذه الروايات أيدها الرحالون فيما بعد ؛ فخبير لهجات جنوب الجزيرة العربية لا ندبرج Landberg الذى كانت لديه وقتا ما فكرة نشر هذا الأثر (٩٠) استخرج منه مادة اثنوغرافية ضخمة (٩١) يمكن على ضوئها تكوين فكرة واضحة عن مضمون تلك الأقسام من كتابه وعن سلاسة أسلوبه وسهولته (٩٢).
وقسما كبيرا من «تاريخ المستبصر» ينوف على الخمس يشغله وصف مدينة عدن (٩٣) ؛ وهو قد عرف منذ وقت طويل يرجع بالتقريب إلى عهد الكشف عن المصنف نفسه. وكما هو ديدنه دائما فقد قدم لنا فيران فى الآونة الأخيرة تعليقا وافيا على جزء منه (٩٤) ، أما الطبعة الكاملة لهذا القسم فقد نشرها أخيرا (١٩٣٦) لوفغرين Lo؟fgren (٩٥). وكما هو الحال مع بقية أقسام الكتاب فإن وصفه لعدن يمثل خلطا غريبا مبتكرا بين الرواية الأسطورية للتاريخ القديم والملاحظات الدقيقة للمؤلف نفسه. أما المادة الأثنوغرافية فوافرة جدا ، كما تتوفر لديه أيضا المعطيات الطبوغرافية ؛ ومن الطريف ملاحظة أن بعض مخطوطات الكتاب تحمل صورة بدائية لتخطيط مدينة عدن (٩٦).