الفصل الثالث عشر
النصف الثانى من القرن الثالث عشر
يتميز القرن الذى أعقب الغزو المغولى بظهور عدد من الآثار الكبرى فى محيط الأدب الجغرافى تحتل بالنسبة لأنماطها نفس المكانة التى يحتلها معجم ياقوت ولو أنها لا تبلغ قيمته : هذا وقد كسبت أسماء القزوينى وأبى الفدا والدمشقى صيتا واسعا سواء فى الشرق أو فى محيط الاستعراب الأوروبى : غير أن هذه الأسماء أخذت تفقد مكانها وتتقهقر إلى الصف الثانى منذ أواخر القرن التاسع عشر نتيجة للكشف عن مصنفات المؤلفين السابقين لهم ؛ ورغما من هذا فقد أزاح البحث الحديث الستار عن جوانب جديدة فى كتبهم لم يكن قد التفت إليها البحاثة من قبل ولهذا فمن العسير القول بأن مادتها قد درست دراسة كافية إلى يومنا هذا. ومما يميز هذا العصر أيضا كما يميز العصر السابق له تلك المصنفات الجغرافية أو المتعلقة بالجغرافيا التى تم تدوينها باللغة الفارسية والتى تمثل أوج ما بلغه هذا الفن من الأدب فى تلك اللغة.
وإلى جانب أوصاف الرحلات التى تتفاوت من حيث قيمتها يسترعى النظر فى النصف الثانى من القرن الثالث عشر مؤلفان يرتبط أحدهما بمغرب البلاد العربية بينما يرتبط الثانى بمشرقها. فأبو الحسن على الغرناطى الذى اشتهر بابن سعيد ولد قريبا من غرناطة فى حوالى عام ٦١٠ ه ـ ١٢١٤ ؛ ومصدر معلوماتنا عنه فى الغالب هو النبذة التى كتبها عن نفسه والتى حفظها لنا المقرى فى مصنفه المعروف (١). وقد نال ابن سعيد حظه من التعليم باشبيلية وأمضى الجانب الأكبر من حياته متنقلا فى طلب العلم ؛ وكما عبر عن ذلك أحد علماء القرن التاسع عشر فإنه قد تنقل فى تجواله «من المغرب الأقصى على المحيط الأطلنطى إلى الخليج الفارسى والتقى بأكابر العلماء ورأى أفضل الكتب» (٢). وقد صحب أباه فى أولى رحلاته إلى الحج عام ٦٣٨ ه ـ ١٢٤٠ فزار شمال أفريقيا ومصر ؛ وفى طريق العودة توفى والده بالإسكندرية عام ٦٤٠ ه ـ ١٢٤٣ (٣) فتخلف ابن سعيد بالقاهرة حتى عام ٦٤٨ ه ـ ١٢٥٠ ثم غادرها إلى الشام وأقام حينا من الدهر بالموصل وبغداد والبصرة. وقبل استيلاء هولاكو على بغداد بأعوام قليلة تمكن ابن سعيد من متابعة دراساته بمكتباتها البالغ عددها ستا وثلاثين مكتبة والتى يصفها لنا بحماس يماثل الحماس والإعجاب الذى وصف به ياقوت مكتبات مرو لعهده. ثم رحل إلى حلب ودمشق فى صحبة المؤرخ الشهير ابن العديم وحج إلى مكة مرة ثانية (٤) ؛ ونلتقى به فى عام ٦٥٢ ه ـ ١٢٥٤ ببلاط أمير تونس ؛ وفى عام ٦٦٦ ه ـ ١٢٦٧ خرج فى رحلة أخرى فمر بالإسكندرية وحلب متجها إلى أرمينيا (٥) حيث دفعه حب الاستطلاع