الفصل الخامس عشر
موسوعات عصر المماليك ـ أسفار ابن بطوطة
وكد القرن الرابع عشر تفوق مصر الفكرى بوجه عام لا فى ميدان الأدب الجغرافى وحده ، فنحن نلتقى فى العصر المملوكى بأدب حافل قل أن نجد له مثيلا فى أى بلد من بلدان الشرق الأخرى (١). وقد تعرفنا حتى الآن على عدد من المصنفات الجغرافية المتعلقة بمصر كما أننا سنتحدث عن أخرى غيرها ؛ بيد أنها ليست هى التى تكسب الأدب الجغرافى لهذا العصر طابعه المميز فإن شرف ذلك يرجع إلى نمط الموسوعات التى ازدهرت فى تلك الآونة والتى أفرد فيها للجغرافيا على الدوام مكانة مرموقة ، وهى التى تترك طابعها المميز بوضوح على القرنين الرابع عشر والخامس عشر وتعتبر خير ما أنتجه ذلك العصر.
أما من وجهة نظر التاريخ الأدبى فإن الموسوعات تنتمى إلى طراز مصرى صرف من المؤلفات الوصفية التى وضعها عمال وعلماء حكومة عصر المماليك ؛ ويجب أن يضم إليها عدد من الأوصاف المستقلة فى جغرافيا مصر والشام وإدارتهما (٢) مما حدث وأن عالجنا الكلام عليه من قبل وسنعرض له حين الحديث على القرن الخامس عشر. وكنمط أدبى فإن هذه الموسوعات وليدة تاريخ طويل معقد فهى ترتبط بعض الشىء بتلك المجموعات التى وضعت فى الإدارة والجغرافيا والمعروفة لنا من القرنين التاسع والعاشر ، ولكنها تختلف عنها فى أنه قد قصد بها دائرة أوسع من القراء. وعلى الرغم من أنها عملت أساسا من أجل كتبة الدواوين الذين كانوا زينة الجهاز الكتابى والإدارى لمصر آنذاك إلا أن جميع المثقفين قد اهتموا بمطالعتها ، مما جعل مؤلفيها يولون اهتماما كبيرا للأسلوب الأدبى. وهى بلاشك أوسع مجالا من المؤلفات السابقة لها ، كما أنها تعالج مسائل أعم وأكثر شمولا فى جميع فروع العلوم التى يريد المؤلف أن يعرف بها. ولا تقف أهميتها عند حد الجغرافيا وحدها بل إنها بنفس القدر تولى اهتمامها أيضا إلى التاريخ والحضارة (٣) ؛ وهى وإن كانت لا تخلو من بعض الصلة بمصنفات الجغرافيا المبكرة إلا أنها إلى جانب هذا قد خضعت لتأثير قوى من ناحية المصنفات الكوزموغرافية للقرن الثالث عشر بحيث تستعير أحيانا طريقة تبويبها. والاختلاف الجوهرى الذى يميزها عن غيرها هو أن هدفها الأول لم يكن الإعلام بل الأدب الفنى ، كما أن مؤلفيها لم يروا فى أنفسهم علماء بل كتّابا ، أعنى كتّابا من موظفى ديوان الإنشاء كل زادهم هو بعض الخبرة فى الشئون الكتابية. وقد أدت وحدة الوسط الذى نشأت فيه الموسوعات إلى تشابهها فى الترتيب ، وهو ترتيب يعكس أحيانا بوضوح تام أثر التدريب الصارم فى الشئون الكتابية.