وأكبر موسوعات القرن الرابع عشر هما موسوعتا النويرى والعمرى ، غير أنه وجد مؤلف سابق عليهما فى هذا الميدان من الناحية الزمنية ويمكن بوساطته تقصى أصل نمط الموسوعات هو محمد بن إبراهيم الوطواط الكتبى الوراق (توفى عام ٧١٨ ه ـ ١٣١٨) (٤). ولقبه الوراق يشير بوضوح تام إلى أنه لم يكن من رجال الأعمال أو عمال الحكومة بل كان من المشتغلين بالكتب وربما كان من تجارها أو نسّاخها ، وعلى أية حال فقد كان وثيق الصلة بالأدب.
ولا تتوفر لدينا معطيات عن سيرة حياته إنما يؤخذ من ألفاظه أنه مغربى المولد مصرى الوطن والدار (٥). وكان شاعرا أديبا اشتهر بمؤلف فى المختارات الأدبية نال رواجا كبيرا كما هو الشأن مع المؤلفات من هذا النوع ، كما اشتهر أيضا بكتاب آخر فى شعراء الأندلس غير معروف لنا عن كثب (٦). ويمثل أهمية أساسية بالنسبة لنا مصنف له لم يطبع حتى الآن ويقف فى الحد الفاصل بين الكوزموغرافيا والموسوعة والمختارات الأدبية ، جامعا بين هذه العناصر الثلاثة وأشبه ما يكون بحلقة موصلة إلى مصنف النويرى. وكما هو الحال دائما مع أمثال هذه المؤلفات فهو يحمل عنوانا متكلفا يختلف أحيانا فى المصادر والمخطوطات هو «مباهج الفكر ومناهج العبر» ؛ ويهدف المؤلف بكتابه إلى الموعظة والعبرة وهو كبقية الكوزموغرافيات غرضه تفسير «معالم» الطبيعة المختلفة ، لهذا فإنه يمثل موسوعة فى العلوم الطبيعية والجغرافيا ولكنه معروض فى أسلوب المصنفات الأدبية وموضح بالشواهد من شعر ونثر. وينقسم الكتاب إلى أربعة فنون الأول فى الفلك والأجرام السماوية والثانى فى الجغرافيا والاثنوغرافيا مع استثناء الشعوب المنحدرة من أولاد يافث وأولاد حام «لأن رائد العقل بهمت عليه أسماؤها فما عرّج عليها ولا حام» (٧) والثالث فى الحيوان والرابع فى النبات. وكل فن ينقسم بدوره إلى تسعة أبواب (٨) ينعكس فى تتابعها تأثير نظام العرض المعهود فى كتب الكوزموغرافيا. والفن الثانى المكرس للجغرافيا يبحث فى بابه الأول فى خلق الأرض وهيئتها ، ولعل مما لا يخلو من الطرافة اعترافه بكروية الأرض وحركتها (٩) ؛ والباب الثانى منه فى الجبال والمعادن والثالث فى البحار والجزائر والرابع فى العيون والآبار والخامس فى ذكر أسباب من سكن المعمور. أما السادس فيبحث فى ذكر البلاد ونواحيها وما ملك المسلمون منها والسابع فى طبائع البلاد وأخلاق من سكنها من العباد والثامن فى المبانى التى بقى أثرها ووعظ خبرها والتاسع فيما وصفت به المعاقل والمنازل.
إن هذا المضمون يذكرنا إلى حد كبير بما هو معروف لنا فى المصنفات الكوزموغرافية خاصة كتاب القزوينى ، غير أن أسلوبه يختلف عنها اختلافا كبيرا لأن الوطواط يقرر منذ البداية فى كل قسم من كتابه بالتقريب أنه لم يقصد إلى الإعلام أو إلى استنباط نتائج عملية من النظريات التى يعرضها ولكن يترك هذا للمتخصصين. فهو مثلا فى الفن الأول الذى أفرده للكلام على الفلك لا يمس الجانب التطبيقى منه وهو التنجيم (١٠) ؛ وكذلك الشأن مع الفن الثالث الذى يمس الحيوان نراه لا يتعرض فى شىء إلى نفعها أو ضررها