الحضارة العربية ، تلك الحضارة التى ما لبثت أن ترعرعت سريعا وأصبحت عنصرا أساسيا فى حضارة البشرية جمعاء. ومن الأهمية بمكان أن ننفذ إلى ظروف الحياة البدوية فى بلاد العرب الوسطى حيث بزغ فجر الشعر الجاهلى ، ذلك الشعر الذى أصبح بمضى الزمن أنموذجا كلاسيكيا للشرق الأدنى بأجمعه ، ومن المهم أيضا بالنسبة لنا أن نزيل النقاب ما أمكن عن التصورات الجغرافية فى بعض مراكز الحضارة بالحجاز حيث ظهر الإسلام لأن هذا بدوره سيوضح لنا الكثير فى نشأة أنماط الأدب الجغرافى التى ظهرت فى وقت واحد مع جميع فنون الأدب العربى الأخرى.
ومن العسير أن نتوقع اتساعا فى المدارك الجغرافية بين بدو الجاهلية غير أن قوة ملاحظتهم للظواهر الطبيعية المحيطة بهم أمر بدهى مرده إلى طبيعة حياتهم نفسها. والبدو عادة يتمتعون بمعين لا ينضب من التجارب المباشرة فى مجال الجغرافيا الفلكية. وترحالهم الدائم وسراهم بالليل ، حين يعتمد الإنسان على على الاهتداء بالقمر والنجوم الساطعة ، قد شحذ ذهنهم مبكرا لمراقبة جميع التغيرات التى تطرأ على القبة السماوية. وهم لم يعرفوا الاهتداء بالنجوم فحسب بل إنهم بفضل طلوعها ومغيبها قد استطاعوا توقيت ساعات الليل. ويحتل القمر بالطبع المكانة الأولى لديهم ، وقد عبر الأديب ابن منظور (المتوفى عام ٧١١ ه ـ ١٣١١) بمهارة فائقة عن علاقتهم بالقمر فى ظروف حياتهم لذلك العهد فقال :
«أنسوا بالقمر لأنهم يجلسون فيه للسمر ، ويهديهم السبل فى سرى الليل والسفر ، ويزيل عنهم وحشة الغاسق ، وينم على المؤذى والطارق» (٧). وهم فى مراقبتهم لمسير القمر لاحظوا مبكرا علاقته بالمجموعة النجمية المتغيرة على التوالى وحددوا عدد منازلها بثمانية وعشرين منزلا أطلقوا عليها اسم «منازل القمر» ، وأعطى لكل واحد منها اسم عربى خالص (٨) ، وترجع هذه الأسماء إلى أقصى زمن ترتفع إليه أشعارهم. وثمة ظاهرة فلكية هامة توصل إليها البدو والحضر على السواء فقد أمكنهم التنبوء بحالة الطقس وتحديد فصول السنة الملائمة للزراعة نتيجة لخبرة طويلة الأمد بمراقبة طلوع ومغيب نجوم معينة ، أو ما يسمى «بالغروب الكونى للمنازل القمرية» The Cosmic Setting of the Lunar) (Stations (٩) ، وكان العرب يعرفون ذلك باسم النوء (الجمع أنواء) وقد لعب دورا كبيرا فى حياتهم. وشيئا فشيئا تجمعت لدى العرب بشأن الأنواء معلومات مختلفة صاغوها كما هو ديدنهم فى صور مسجوعة ثبتت به على الدوام وتم تدوينها فى وقت واحد مع الشعر الجاهلى على ما يبدو. وقد حفظت لنا أوصاف مختصرة لجميع الأنواء الثمانية والعشرين نسوق بعضا منها من باب المثال لا الحصر (١٠) :
«إذا طلع الشرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان وتهادى الجيران».
«إذا طلع الدبران توقدت الحزّان وكرهت النيران واستعرت الذبان ويبست الغدران ورمت نفسها حيث شاء الصبيان».