من الواضح تماما أن الأمر يتعلق بحكاية ملفقة ، والدليل على ذلك ليس فى تفاصيل الحكاية وحدها والظروف التاريخية المحيطة بها ، بل أيضا فى الموضوع نفسه وفى تاريخه الأدبى.
وهذه الحكاية نفسها توجد فى شكل أوسع وبتفاصيل جديدة لدى جغرافى بداية القرن العاشر (حوالى عام ٩٠٠) ابن الفقيه (١٢١) ؛ وثمت رواية أخرى لهذه القصة انتقلت إلى الصين وحفظها لنا أبو زيد السيرافى أو وصلت عن طريقه إلى المسعودى ، وهى على لسان ابن وهب من أهل النصف الثانى للقرن التاسع. ويتبادر إلى الذهن سؤال محير هو متى نشأت هذه القصة عن رحلة عبادة بن الصامت ؛ فالمستشرق الروسى كريمسكى Krymski يرى أنها لا تتجاوز بأية حال القرن العاشر (١٢٢) ، ولكنه فى الترجمة الأوكرانية لبحثه يوكد دون تردد أنها ترجع إلى ما بعد القرن العاشر (١٢٣) ؛ غير أن وجود الرواية الثانية لدى ابن وهب والدينورى ولدى ابن الفقيه أيضا ، وجميعهم من مؤلفى النصف الثانى من القرن التاسع ، يضطرنا إلى الرجوع القهقرى بتاريخها واعتبارها مؤلفا لا يتجاوز بحال منتصف القرن التاسع ؛ أما الرحلة إلى القسطنطينية فى عهد أبى بكر فإنها بالطبع لم تحدث على الإطلاق. ومن نافلة القول أن نضيف أنه تقترن باسم عبادة أقاصيص خيالية أخرى ؛ من ذلك أن ابن إسحاق (١٢٤) يورد قصة تنسب إليه مؤداها أن محمدا بعث سرية إلى ساحل البحر فلما نفدت ذخيرتهم قذف لهم البحر بدابة هائلة تغذت عليها السرية عشرين يوما ، وكان يمر تحت أحد أضلعها بعير براكبه.
وإلى جانب هذه الموضوعات الأسطورية والحكايات التى حفل بها أدب الحديث المبكر تجمعت فيه بالتدريج إلى جانب ذلك مادة جغرافية حقيقية ، خاصة فيما يتعلق بالفتوحات الإسلامية. وبعض من هذه الأحاديث الأخيرة تردد صداه فى الأدب الجغرافى بالتالى رغما من أنه قليلا ما احتوى على معلومات ذات أهمية ، ذلكم هو ما يسمى «بالفضائل» أى ذكر محاسن البلاد والشعوب. وفى العهود الأولى اقتصر الاهتمام فى الغالب على الأماكن المقدسة أو المقترنة بحياة محمد كالمدينة وبيت المقدس والشام ومصر واليمن ، ووفقا لذلك صيغت مادة الأحاديث. فالشام مثلا تحميها الملائكة وسيسقط عن سكانها حساب اليوم الآخر بفضل أربعين صالحا (أبدال) ؛ وهى ملجأ من جميع أنواع الفتن وبها يهلك الدجال (١٢٥). وشيئا فشيئا بدأت مادة هذه الفضائل تتخذ طابعا دنيويا فظهرت أماكن أخرى مثل البصرة وتلتها بقية المدن والبلاد المعروفة. وقد اتخذت الفضائل صيغة أقوال مأثورة تميزت بالإيجاز وبمناسبتها للمقام وغلب عليها طابع السجع. وفى هذه الصورة الأخيرة بدأ ينشرها ليس أهل الورع فحسب بل وأيضا «الحكماء» أو «أهل البلاغة» مما جنح بها أحيانا للأسف الشديد نحو العناية باللفظ البليغ واللفتة البارعة على حساب الصحة والواقع.
وبالتدريج بدأت تأخذ مكانها إلى جانب الفضائل «المثالب» أيضا. ومن المستحيل إغفال أوجه الشبه بين تطور هذا النمط الجديد من الأدب والطريق الذى سلكته المصنفات الأولى فى الأنساب بما اتسمت