أرض العرب ومعدن الذهب قال فعمان قال حرها شديد وصيدها موجود وأهلها عبيد قال فالبحران قال كناسة بين مصرين وجنة بين بحرين قال فمكة قال قوم ذوو جفاء ومن سجيتهم الوفاء قال فالمدينة قال ذوو لطف وبرّ وخير وشر قال فالبصرة قال حرها فادح وماؤها مالح وفيضها سائح قال فالكوفة قال جنة بين حماة وكنّة العراق تحشد لها والشام يدرّ عليها سفلت عن برد الشام وارتفعت عن حر الحجاز قال فالشام قال تلك عروس بين نسوة جلوس تجلب إليها الأموال وفيها الضراغمة الأبطال» (١٣٣).
غير أن هذه الفصاحة لم تنقده من الموت ؛ ويروى أن الحجاج صاح بعد مقتله : «أى أدب فقدنا منك وأى كلام رصين سمعنا منك». ذلك أن الحجاج نفسه كان مولعا بأمثال تلك الأقوال البليغة الموجزة ؛ ويروى أنه أوصى واليه إلى أصفهان قبل رحيله قائلا «قد وليتك بلدة حجرها الكحل وذبابها النحل وحشيشها الزعفران» (١٣٤).
ومن غير الممكن بالطبع أن نبصر فى هذه الصنعة الأدبية رواية حرفية «للفضائل» كما وجدت فى العصر الأموى ، خاصة وأن ابن خلكان (١٣٥) قد حفظ لنا نفس هذه القصة فى صورة مخالفة ، كما وأن وصف مكران لدى ياقوت ينسب إلى خلافة عثمان ويرد على لسان حكيم بن جبلة (١٣٦) (توفى عام ٣٧ ه ـ ٦٥٧) وفى صورة مسجوعة أيضا ، مما أسخط عليه الخليفة. أما ابن القرية فقد قلب له التاريخ ظهر المجن ، فالأصمعى اللغوى المعروف (توفى حوالى عام ٨١٣) يوكد أن ابن القرية لم يوجد على الإطلاق شأنه فى هذا شأن المجنون الشاعر (١٣٧). ولا حاجة بالطبع إلى التطرف فى النقد إلى هذه الدرجة (١٣٨) ، ولكن حتى إذا وافقنا الأصمعى فى رأيه فإنه من المستحيل إنكار وجود نمط «الفضائل» الذى يكاد يكون أطرف محاولة فى ذلك العصر لصياغة التصورات الجغرافية فى قالب أدبى. وأحيانا يمكن الجزم بصورة قاطعة بأن بعض أمثلة «الفضائل» صحيحة الأصل وأنها ترجع فعلا إلى العصر الذى تشير إليه المراجع وتحتفظ بنفس القالب الذى صيغت فيه. وفيما يتعلق بوصف مكران بالذات فإنه يوجد تأييد طريف فى أبيات لأعشى همدان (١٣٩) ، ذلك الشاعر الذى وقع فى أسر الديلم والذى قتله الحجاج عام ٨٣ ه ـ ٧٠٢. قال :
«وأنت تسير إلى مكّران |
|
فقد شحط الورد والمصدر |
ولم تك من حاجتى مكّران |
|
ولا الغزو فيها ولا المتجر |
وخبّرت عنها ولم آتها |
|
فما زلت من ذكرها أذعر |
بأن الكثير بها جائع |
|
وأن القليل بها مقتر |
وأن لحى الناس من حرها |
|
تطول فتجلم أو تضفر |
ويزعم من جاءها قبلنا |
|
بأنّا سنسهم أو ننحر» |
(١٤٠) ليس من العسير أن نبصر فى البيت الذى يرد فيه القول «بأن الكثير بها جائع وأن القليل بها مقتر»