إشارة إلى ألفاظ ابن القرية «إن كثر الجيش بها جاعوا وإن قلو ضاعوا». ومن ثم فإن تلك القطعة من «الفضائل» كانت ولا بد معروفة جيدا ومتداولة فى عهد أعشى همدان ، أى فى النصف الثانى من القرن السابع. لذا فإن احتمال ظهورها فى عهد الخليفة عثمان لا يمكن اطراحه كلية. والعصر الأموى يحفل بعدد غير قليل من أمثلة هذا النوع من الوصف الأدبى. وفى مجلس للخليفة هشام (١٠٥ ه ـ ١٢٥ ه ـ ٧٢٤ ـ ٧٤٣) يعطى خالد بن صفوان الخطيب المشهور وأحد بلغاء العرب (توفى عام ١٣٥ ه ـ ٧٥٢) (١٤١) وصفا لموطنه البصرة حفظه لنا واحد من أقل الكتاب شهرة فى النصف الأول من القرن العاشر وهو ابن القاصّ (١٤٢).
ويقترن باسم الحجاج أول ذكر معروف لدينا عن الخارطات عند العرب. ففى عام ٨٩ ه ـ ٧٠٨ بعث الحجاج إلى قائدة قتيبة بن مسلم الباهلى فاتح بلاد ما وراء النهر ، وذلك عندما استبطأ حصاره لبخارى ليرسل إليه «صورة» المنطقة ؛ ويقال إنه قد بعث إليه بتعليماته الاستراتيجية عقب ذلك اعتمادا على تلك الخارطة (١٤٣). وفى الأصل العربى كما نرى تستعمل كلمة «صورة» التى حل محلها فيما بعد لفظ «مصور جغرافى» (١). ورواية الطبرى التى حفظت لنا هذه الواقعة (١٤٤) ترتفع إلى مصدره الأساسى فى فتح تركستان وهو المدائنى (المتوفى حوالى عام ٢١٥ ه ـ ٨٣٠) ، وأغلب الظن أنها تعكس حقيقة واقعة. ويغلب الخيال أكثر على القصة الثانية التى يوردها لنا ابن الفقيه. قال :
«وبعث الحجاج إلى وفد الديلم فدعاهم إلى أن يسلموا أو يقرّوا بالجزية فأبوا فأمر أن تصوّر له الديلم سهلها وجبلها وعقابها وغياضها فصورت له فدعا من قبله من الديلم فقال إن بلادكم قد صوّرت لى فرأيت مطمعا فأقرّوا لى بما دعوتكم إليه قبل أن أغزيكم الجنود فأخرب البلاد وأقتل المقاتلة وأسبى الذرية فقالوا أرنا الصورة التى أطمعتك فينا وفى بلادنا فدعا بالصورة فنظروا فيها فقالوا قد صدقوك عن بلادنا هذه صورتها غير أنهم لم يصوروا فرسانها الذين يمنعون هذه العقاب والجبال وستعلم ذلك لو قد تكلّفته فأغزاهم الجنود وعليهم محمد بن الحجاج فلم يصنعوا شيئا وانصرفوا إلى قزوين» (١٤٥).
إن عنصر الخيال المحيط بهذه القصة يحول بيننا وبين الاعتقاد بأن المحاولات الأولى المستقلة للعرب فى رسم المصورات الجغرافية قد ارتبطت باسم الحجاج عن طريق المصادفة وحده (١٤٦).
فإذا ما انتقلنا إلى الكلام عن الرحلات فى العصر الأموى فإن أول ما نلاحظه هو أن معظم وقائعها ليس من السهل فصله عن الأساطير. وترتبط بعض هذه الرحلات ببيزنطة ؛ وقد جاء فى قصة رواها كاتب من عهد المهدى العباسى (١٥٨ ه ـ ١٦٩ ه ـ ٧٧٥ ـ ٧٨٥) أنه فى عهد عبد الملك بن مروان
__________________
(*) يستعمل العرب للتعبير عن لفظ خارطة (Map) «المصور الجغرافى» ، بيد أن غلبة خارطة فى الاستعمال الحديث اضطرنا إلى إثباتها فى هذا الكتاب. وقد أخذ العرب عن الروم لفظCarta (كارتا) بصيغة الجمع فقالوا قرطاس ؛ أما لفظ خارطة فقد عربه المصريون أيام محمد على عن الفرنسيةCarte. ولم يكن الجغرافيون العرب على اتفاق تام فى استعمال مصطلح «المصور الجغرافى» ، فابن فضل الله العمرى فى مسالك الأبصار يستعمل «لوح الرسم» بينما ورد فى بعض نسخ نزهة المشتاق للإدريسى «لوح الترسيم» (راجع مقال أحمد زكى باشا الذى ظهر بمجلة المقتبس ـ الجزء السادس من المجلد الخامس ص ٣٨٧). (المترجم)