بالذات ترجع أول إشارات ولو مبهمة عن ظهور مصورات جغرافية وعن الجغرافيا الوصفية فى المجالين الإدارى والاقتصادى. أما المعلومات العملية فى ميدان الجغرافيا فقد زادت العناية بتنظيمها أيضا ولكن لم يتبق لنا أى أثر من ذلك. كما وأن بريد الدولة الذى خضع لتنظيم جيد فى العهد الأموى قد استدعى إعداد رسوم تخطيطية لمختلف الطرق ؛ ومثل هذه الرسوم قد وجد بلاريب فى دواوين الحكومة واستغلها بعض مؤلفى العصر العباسى فى وضع مؤلفات فى هذا الميدان وصلت إلينا. أما طرق البريد فقد نصبت على جانبها حجارة لتوضيح المسافات وهى ما يسمى بالأميال ؛ وكانت تبدأ من مركز الخلافة. وقد عثر على بعض هذه الحجارة بفلسطين وترجع إلى عهد عبد الملك بن مروان (أى قبل عام ٨٦ ه ـ ٧٠٥) (١٥٥) ؛ ومنذ عهد ليس ببعيد عثر على واحد منها قرب تفليس وأغلب الظن أنه يرتفع إلى نفس ذلك العصر (١٥٦).
وتنعدم الجغرافيا الفلكية تماما فى هذا العصر. وإذا حدث وأن وجدت فقد كان صداها ضئيلا وبين السريان وحدهم بحيث لم تصل إلى العرب. ومن المعلوم أن أسقف اليعاقبة ساويرس سبوكت Severus Sabokt ، وكان معاصرا لعمر وعثمان بل ولمعاوية فى الأعوام الأول لخلافته ، قد وجد الوقت الكافى ليشتغل بالفلك إلى جانب اشتغاله بمنطق أرسطو. ومن معاصرى الخلفاء الأمويين الأوائل يعقوب الرهاوى (٦٤٠ ـ ٧٠٨) الذى نال الشهرة كعالم لغوى ومفسر ، وكان أول من حاول فى اللغة السريانية إعطاء صورة متماسكة للتصورات العلمية فى ذلك العصر عن العالم وأقسامه وظواهره وذلك أثناء تفسيره لأسطورة التوراة فى خلق العالم ؛ وهو يورد فى سياق عرضه مقتطفات من بطلميوس (١٥٧). ولم يكن بمقدور السريان أن يصبحوا أساتذة للعرب فى العصر الأموى بالرغم من أن هذا هو ما حدث فعلا فى أقل من قرن بعد ذلك. لذا فليس من الغريب ألا نعثر على أى أثر للجغرافيا الفلكية بين العرب فى ذلك العصر. ولكنها تندفع فجأة كسيل جارف فى نهاية القرن الثامن ولا تكتفى بإبراز فرع جديد فحسب بل تحدث تحولا ملحوظا فى الفروع الأخرى التى تشكلت آنذاك. وهذه اللحظة بالذات هى التى يجب أن تعتبر بحق بداية الأدب الجغرافى العربى.