الفصل الثانى
بداية الجغرافيا الرياضية عند العرب (١)
يرجع أصل الجغرافيا العلمية عند العرب إلى الفلكيين اليونان. فإذا ما تم الاتفاق على هذه الحقيقة الثابتة وانتقلنا منها إلى تاريخ التطورات الأولى للعلم فى قالبه العربى لجابهنا لأول وهلة عدد غير قليل من المشاكل المعلقة التى ما تزال تفتقر إلى الحل حتى الآن. وسيتضح لنا منذ البداية أن التأثير اليونانى لم يكن هو السابق من الناحية الزمنية ، فقد تقدمه الهندى ثم الإيرانى الذى يرتبط بدوره بالهندى. وإذا كان المذهب اليونانى قد أخذت كفته فى الرجحان منذ بداية القرن التاسع ولم يلبث أن غلب عقب ذلك إلا أن المذهبين الأولين ظلا مع ذلك محتفظين ببعض أهميتهما مدة لا تقل عن القرنين حتى فى المناطق البعيدة جدا عن موطنيهما كالأندلس ، وظلت بعض النظريات المرتبطة بهما عالقة بالجغرافيا العربية إلى عهد أبعد من ذلك. وقد أدى أحيانا تداخل التأثيرات وتشابكها إلى خلق صورة متضاربة الألوان أصبح من العسير تتبع سير التطور التاريخى خلالها.
وثمة سؤال آخر لا يزال يفتقر إلى إجابة شافية وهو لماذا ظهرت الجغرافيا العلمية عند العرب فى العصر العباسى فقط ، وذلك فى النصف الثانى من القرن الثامن؟ ولماذا كان نقلتها فى أول الأمر من الإيرانيين غالبا على الرغم من أن الأمويين كانوا أقرب إلى المهد القديم للحضارة الهلنستية Hellinistic Civilization))(١) فى أنطاكية والإسكندرية حيث لعب السريان فى العادة دور الوسيط.
ويبدو مغريا الفرض القائل بأن العباسيين فى اتجاههم السياسى نحو إيران قد ارتبطوا بالثقافة الإيرانية أيضا. وقد عرف بلاط الساسانيين المنجمين (٢) بينما لا نسمع شيئا عنهم بين العرب فى العصر الأموى ، بلى إن لفظ «منجم» لا يقابلنا فى الشعر قبل عام ١٣٢ ه ـ ٧٥٠ (٣). ولعله ليس من محض الصدفة أن يلعب المنجمون دورا ملحوظا عند وضع الحجر الأساسى لبناء بغداد عام ١٤٥ ه ـ ٧٦٢ ، بل ويقال إن الخليفة المنصور استعان بمعرفة الطالع (horoscope) لاختيار موقع عاصمته الجديدة (٤). ويرد اسم اثنين من المنجمين فى هذه المناسبة ، وكانا كما هو الحال فى ذلك العصر فلكيين أيضا وعلى معرفة
__________________
(*) العصر الهلنستى Hellinistic هو عصر انتشار الحضارة اليونانية فى المشرق عقب فتوحات الإسكندر ؛ وقد أثرت هذه الحضارة فى حضارة الشرق وتأثرت بها وأخرجت مزيجا من الاثنين. وهذا اللفظ يستعمل فى مقابل العصر الهلينى Hellinic وهو عصر الحضارة اليونانية فى بلاد اليونان نفسها ، أى قبل الغزو المقدونى. ويقول سارطون إنه «قد أحسن اختيار هذه العبارة إذ توحى بالهلينية بالإضافة إلى شىء آخر غريب عنها ، شىء مصرى أو شرقى». (المترجم)