ألف سنة. ولمجهود أبى معشر فى هذا الصدد أهمية خاصة فى تاريخ العلم البشرى ، وترجمة رسالته الكبرى «المدخل إلى علم أحكام النجوم «أو «المدخل الكبير» التى قام بها هرمان الدلماتى Hermann of Dalmatia حوالى عام ١١٤٠ (٧٤) قد ساعدت بشكل خاص على ترويج تلك النظريات فى الغرب (٧٥). هذا وقد شغلت مسائل التقويم (Chronology) وحساب الأزمنة ذهن أبى معشر بوجه عام فلم يحصر نفسه فى نطاق العلم الهندى ـ الإيرانى ؛ ونبصر من قطعة كبيرة تبقت من مؤلفه المفقود «الألوف» أنه كان يجهد فى توضيح معنى «النسىء» الذى كان يعمل به عرب الجاهلية ، وهو شىء أشبه بالشهر الكبيس. ذلك أنه حتى فى العصر الذى عاش فيه كان المعنى الحقيقى لهذا اللفظ قد نسى تماما (٧٦).
وأبو معشر هو آخر الدعاة الكبار للمذهب الإيرانى ، بالرغم من أنه كمحمد الخوارزمى قد أخذ طرفا فى نشر المذهب اليونانى. غير أن المذهب الإيرانى لم يهجر بعده بصورة نهائية (٧٧) ، ففى الأندلس مثلا كانت الأطوال تقاس أحيانا إلى نهاية القرن الحادى عشر «بمذهب أهل الفرس» الذى كثيرا ما أشار إليه إلى جانب «مذهب الهند» مصنف «جداول طليطلة» The Tables of Toledo ومخترع الاسطرلاب المكمل أبو اسحق إبراهيم الزرقالى (٧٨) الذى اشتهر فى أوروبا باسم (Arzahel) بفضل رسالته فى الاسطرلاب.
ولعل «زيج الشاه» كان أكثر مصنفات المذهب الفلكى الإيرانى انتشارا فى اللغة العربية ، بل وربما كان الوحيد من نوعه إذ لا علم لنا بوجود ترجمات لمصنفات أخرى ؛ ومن المحتمل أن الفرس لم تعرف فى هذا الفن كتبا غيره. أما تلك المصنفات المنحولة ، خاصة فى التنجيم (Astrology) ، والمنسوبة أحيانا إلى زردشت Zoroastra (٧٩) وبزرجمهر ، والتى وجدت انتشارا واسعا فى الأدب العربى ، فليس لها أهمية جدية أضف إلى هذا أنها كثيرا ما ترجع إلى التراث اليونانى لا الإيرانى رغما من أن عناوينها تشير إلى العكس.
وقد أخذ المذهب اليونانى يضيق الخناق على المذهبين الآخرين فى الجغرافيا الرياضية العربية منذ بداية القرن التاسع ، ويمكن القول بأنه قد أصبح بحق المذهب السائد منذ منتصف القرن التاسع. والمقاومة الضعيفة التى ظهرت من المذهبين الهندى والإيرانى ترجع فى جوهرها إلى أن أغلبية المصنفات التى تمت ترجمتها عنهما من قبل قد حملت طابعا عمليا خالصا واقتصرت على إيراد القواعد وشرح طريقة استعمال الجداول دون الاهتمام بسرد البراهين والأدلة (٨٠) ؛ فالفلكى المكتفى بها لم يكن بوسعه أن يرقى فوق مرتبة المحاكاة الصرفة والتقليد المحض إذا لم يتمرس فى التحليل النظرى ويتمكن من الأسس ويتدرب تدريبا كافيا على الأرصاد الشخصية القائمة على الملاحظات الدقيقة على أمد طويل. وسرعان ما أحس العرب بحاجتهم إلى هذا المنهج عندما تعرفوا على مصنفات إقليدس Euclides وبطلميوس ؛ وليس أفضل فى هذا الصدد من إيراد ألفاظ البتانى عن بطلميوس. قال :