الفتية (١٢١). وبغض النظر عن النتائج التى توصلوا إليها فإن المحاولة فى حد ذاتها جديرة بالإكبار خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أنه لم تجر منذ أقدم العصور سوى ثلاث تجارب مستقلة لقياس الأرض ـ إحداها لإيراتوسثينيس والثانية لبطلميوس والثالثة للعرب ، وأن جميع معلومات أوروبا الوسيطة فى هذا الصدد إنما تعتمد عليها اعتمادا كليا (١٢٢). وقد اختيرت لهذا القياس المفازة الواقعة بين تدمر والرقة على الفرات وواد فى أرض الجزيرة قرب سنجار بين درجتى عرض ٣٥ و ٣٦ شمالا (١٢٣). وانقسمت اللجنة المكلفة بذلك العمل ، وذلك بعد اجتماعها فى النقطة المركزية ، إلى فرقتين اتجهت إحداهما جنوبا على خط منتصف النهار على بعد درجة واحدة ، بينما اتجهت الفرقة الأخرى على نفس المسافة ولكن صوب الشمال. ثم رجعتا إلى نقطة البداية وأجروا مقارنة بين النتائج التى توصلوا إليها ثم استخلصوا النتيجة النهائية. وقد أجريت هذه التجربة عام ٨٢٧ واتسمت الروايات عنها بطابع يسوده الاضطراب من ناحية والخيال من ناحية أخرى. ويروى ابن يونس ، وهو من فلكيى أواخر القرن العاشر ، أن إحدى الفرقتين قد حددت مقاس الدرجة بسبعة وخمسين ميلا بينما حددته الأخرى بستة وخمسين ميلا وربع الميل ، وأنه حين عرضت النتائج على المأمون أخذ بالرقم المتوسط وهو ستة وخمسون ميلا وثلثا الميل (١٢٤). وأغلب الظن أن هذه التفاصيل لا تخلو من العنصر القصصى ، ولكن تجدر بنا الإشارة إلى أن بعض الفلكيين ممن كانوا على علم بطريقة القياس هذه قد توصلوا إلى نتائج مكنت العلم المعاصر من حساب المعادل المترى (Metric Concordance) لمقاسات المأمون. هذا وعقب المحاولة الفاشلة لجوردان Jordan فى أواخر الثمانينيات من القرن السابق وذلك اعتمادا على الترجمات اللاتينية للمصنفات العربية ، أجرى المستعرب نالينوNallino فى عام ١٨٩٢ فحصا عميقا لجميع الروايات المختلفة عن المقاييس العربية لخط منتصف النهار بدقة فائقة حتى أن عالم الرياضيات شوى Schoy لم يأخذ عليه فى عام ١٩٢٧ سوى فروق ضئيلة (١٢٥). وقد وضح من هذه القياسات أن الميل العربى كان يساوى أربعة آلاف ما يسمى «بالذراع السوداء» التى ارتبطت باسمها كما هو الشأن دائما أسطورة ما. وهذه الذراع السوداء كانت أقل من نصف المتر قليلا (٤٩٣٣ ر. مترا لدى نالينو و ٤٩٣٢ ر. مترا لدى شوى) (١٢٦). وقد نشأ الخطأ فى حساب العلماء السابقين لهما من اتخاذهم ذراع «مقياس النيل» Nilometer المشهور بالقاهرة كوحدة للقياس. وهو يتجاوز نصف المتر بقليل (٥٤ ر. من المتر لدى شوى) (١٢٧) ولذا فإن الميل العربى المستعمل هنا يقرب طوله من كيلومترين (٢ ر ١٩٧٣ مترا عند نالينو أو ٨ ر ١٩٧٢ مترا عند شوى) (١٢٨). ودرجة خط منتصف النهار مقدارها عند نالينو ٦٧ ر ١١١٨١٤ مترا (١٢٩) وعند شوى ٩ ر ١١١٧٢٠ مترا (١٣٠). فإذا عرفنا أن أكثر المقاسات انتشارا فى القرن التاسع عشر وهو مقاس بيسيل Bessel قد قدر الدرجة بمقدار ١١٠٩٣٨ مترا (١٣١) ظهر لنا جليا أن الخطأ فى مقياس العرب يقل عن الكيلومتر ، مما يمكن أن نرجعه فى يسر إلى النقص فى الأجهزة المستعملة فى القرن التاسع. إن هذه المحاولة الجريئة لمقاس الأرض تقف فى حد ذاتها دليلا