على ما بلغته الحضارة العربية من تقدم علمى كبير وسريع الخطى ، مما جعلها تحتل بحق مكانة مرموقة فى تاريخ الجغرافيا والرياضيات (١٣٢). ومما يوكد الأهمية التاريخية لهذا الحادث أن القياس التالى للأرض بعد العرب لم يتم إلا فى أوائل القرنين السادس عشر والسابع عشر (فرنل Fernel وسنليوس Snellius))(١٣٣).
كان الحساب المأمونى لدرجة خط منتصف النهار أصح القياسات لعهده وأعمها انتشارا ، غير أن العرب عرفت أيضا غيره من القياسات وصلتهم عن اليونان والسريان واستمر بعض العلماء يستعملها من حين لآخر. ويمكن أن يرد أصل هذه الحسابات إلى أن علماء السريان والعرب لم تكن لديهم فكرة واضحة عن حقيقة المقاييس التى استعملها اليونان عند إجراء تلك القياسات وخير مثال لهذا هو حساب بطلميوس للدرجة بمقدار ستة وستين ميلا وثلثى الميل (١٣٤) ، وذلك على أساس القياسات التى أجريت فى أرض الجزيرة بين حران وآمد والتى يتحدث عنها ياقوت فى مقدمة معجمه الجغرافى (١٣٥). وقد كان تحديد الدرجة بمقدار خمسة وسبعين ميلا (١٣٦) ، وهو التحديد الذى أخذ غالبا عن السريان ، أقل دقة واستعمالا من سابقه رغما من أنه ظهر فى عدد من المؤلفات الجغرافية ووجد عند فلكى كبير كالبتانى (١٣٧). هذا وقد ارتبطت مقاسات الطول المستعملة فى الحياة اليومية بالقياس الأول ، وإذا حدث وان تراوحت مقاسات الذراع نظرا لتعدد أنواعه فإن الميل قد استمر ثابتا ، على الأقل فى المعاملات الرسمية (١٣٨) ؛ كما استمر ثابتا أيضا الفرسخ وهو يساوى ثلاثة أميال ، أى ستة كيلومترات بالتقريب (١٣٩).
ويفضل الترجمات اللاتينية للمصنفات العربية وجد طريقه إلى أوروبا التحديد المأمونى للدرجة بستة وخمسين ميلا وثلثى الميل. ونتيجة لذلك فقد تكرر ما وقع للسريان والعرب مع اليونان ، ذلك أن العلماء الأوروبيين للقرنين الرابع عشر والخامس عشر لم يلتفتوا إلى الاختلاف بين الأميال العربية وأميالهم ، الأمر الذى نشأت عنه أخطاء جسيمة أعان أحدها على اكتشاف كولومبس لأميركا ، فهو قد احتسب الدرجة بمقدار ستة وخمسين ميلا إيطاليا وثلثى الميل ، فى حين كان الميل الإيطالى فى واقع الأمر يقل عن الميل العربى بمقدار ثلاثمائة وأربعة وثمانين مترا. وعلى ذلك فالدرجة الواحدة فى حساب كولومبس تقل بمقدار اثنين وعشرين كيلومترا عن الدرجة العربية ، وبالتالى كان تقدير المسافة بين سواحل أوربا الغربية وسواحل آسيا الشرقية أقل بكثير عن الواقع ، ولعل كولومبس لو علم بحقيقة الأمر منذ البداية لما أقدم على ركوب المحيط على سفنه الصغيرة التى لم يكن بوسعها حمل المؤن اللازمة لمثل هذه المهمة (١٤٠).
وحساب درجة نصف النهار لا يعتبر الحدث الأهم لعصر المأمون ، ولكن يمكن اعتباره حدثا فريدا فقط ، إذ أن النشاط سار قدما وبخطى منتظمة فى محيط الفلك والجغرافيا الرياضية. ففى خلافة المأمون تم إنشاء مرصدين أحدهما ببغداد بحى الشماسية والآخر على جيل قاسيون عند دمشق ؛ وقد تركز مجهود المرصدين فى تحقيق جميع معطيات المجسطى تحقيقا علميا (١٤١) ، وساق هذا إلى تحديد الموقع الجغرافى