غير أن حدود «المعمورة» والأقاليم قد حفظت لنا على الطريقة اليونانية ، أما الأطوال فقد حسبت على ما يبدو على أساس المذهب الإيرانى ابتداء من المشرق كرد فعل ضد الاتجاه الغربى للعلم ، أو ربما كان ذلك أكثر ملاءمة لطريقة الكتابة العربية من اليمين إلى اليسار (١٥٦). وبالطبع فإن إعادة تصوير هذه الخارطة بحذافيرها أمر مستحيل (١٥٧) بالرغم من أن بعض الفلكيين قد أفادوا منها بطريقة منتظمة وحفظوا لنا مجموعة من الحقائق عنها (١٥٨) ؛ ولا يزال الكثير من الغموض يكتنف طبيعة الأسس التى رسمت عليها. وبالرغم من أن المسعودى يوكد أن الأرض قد صورت فيها وفقا لمذهب بطلميوس إلا أن الزهرى الجغرافى الأندلسى للقرن السادس ـ إذا صح ما زعمه فى مقدمة مصنفه «كتاب الجغرافيا» (١٥٩) من أنه قد رأى الخارطة المأمونية ـ يعطى وصفا مغايرا تمام المغايرة. وطبقا لما جاء فى قوله فقد كانت مقسمة إلى سبعة أقاليم ستة منها تحيط بالسابع الموجود فى الوسط. وهذه الطريقة أكثر مطابقة للتقسيم الإيرانى للأرض إلى كشورات كما وصفه البيرونى فى «كتاب التفهيم» (١٦٠) ؛ وإذا ما أخذنا فى حسابنا الميول الإيرانية للمأمون وللدوائر المحيطة به فيجب ألا يدهشنا هذا فى شىء. بيد أن أقوال الزهرى تقف فريدة فى بابها بشكل يمنعنا من تغليبها على إجماع الآراء فى الجانب الآخر. وثمة نقطة لا يرقى الشك إليها وهى أن فكرة صنع خارطة للعالم من أجل المأمون لم تخل من تأثير فكرة اعتبارها رمزا للسيادة العالمية وذلك على نهج إيران القديمة ، فقد حفظت روايات عديدة عن آثار مماثلة عملت من قبل للأكاسرة الساسانيين. وقد اعتبر كبار الحكام هذا وقفا عليهم وحدهم لا يشاركهم فيه أحد ، كما سنرى من مثال السامانيين بخراسان والنورمان بصقلية (١٦١).
ومهما كانت طبيعة الحل الذى سنجده للمشكلة المتعلقة بخارطة المأمون فإنه يمكن القول على أية حال وبدرجة كبيرة من اليقين أن فن الكارتوغرافيا (أى رسم المصورات الجغرافية) العربى قد ارتبط منذ البداية باسم بطلميوس بنفس القدر الذى ارتبطت به الجغرافيا الرياضية. وقد حفظ لنا العرب وورثهم ذكرى بطلميوس إلى نهاية العصور الوسطى حفظا فاق بكثير ما فعلته أوروبا الوسيطة فى هذا المضمار رغما من أنها تدين له بالكثير أيضا. وقد نسيت خارطته تماما فى الغرب وكانت خارطة الإدريسى حوالى عام ١١٥٤ هى الأثر الوحيد الهام فى الكارتوغرافيا الأوروبية قبل القرن الرابع عشر الذى يتمثل فيه التراث البطلميوسى (١٦٢). وعرف كتابه المجسطى جيدا فى أوروبا منذ القرن الثانى عشر وذلك بفضل الترجمة اللاتينية المنقولة عن العربية (١٦٣) ، ولكن «جغرافيا» لم يكتشف فى أوروبا للمرة الأولى إلا فى بداية القرن الخامس عشر (١٦٤). ومن الطريف ملاحظة أنه يمكن تحديد تاريخ الكشف عن «جغرافيا» بطلميوس بالكثير من الدقة ؛ فبطرس الآيى المار ذكره والذى يرجع الفضل إلى كتابه «صورة العالم» فى اطلاع كولومبس على نظريات العرب فى الأرين ، قد استعمل عند تأليفه له حوالى عام ١٤١٠ كتاب «المجسطى» وحده ، ولم يكن له أدنى علم بكتاب «جغرافيا» لبطلميوس (١٦٥). ولكن لا نلبث أن نراه