مقدمة
للدكتور إبراهيم مدكور
جمعنا فى هذا المجلد ـ على غير عادة ـ ثلاثة فنون من طبيعيات الشفاء ، وهى : «السماء والعالم» ، «الكون والفساد» ، «الأفعال والانفعالات». ولا شك فى أنها متصلة ومتكاملة : ينصب أولها على الأجسام الطبيعية بسيطة كانت أو مركبة ، فيبين خصائصها ومكوناتها ؛ ويبحث ثانيها فيما قد يطرأ عليها من كون أو فساد ؛ ويعالج ثالثها ما يلحقها من أعراض وانفعالات.
ولم يكن للعرب قبل الإسلام درس يعتد به ، ولا علم يعول عليه. وترجع معلوماتهم الطبيعية إلى ما أوحت به الملاحظة العابرة والتجربة اليومية ، وقضت به ظروف الحياة وأسباب العيش ، كمعرفة مطالع النجوم ومغاربها وأنواء الكواكب وأمطارها (١). ثم جاء الإسلام فوجه نظرهم إلى ما فى الكون من عجائب وآيات ، ودعاهم إلى البحث والنظر. وامتدت فتوحاتهم شرقا وغربا ، فاتصلوا عن قرب بالحضارات القديمة والمعاصرة ، ووقفوا على علوم لا عهد لهم بها.
وما إن انتشرت الدعوة الإسلامية ، وهدأت حركة الغزو والفتح ، حتى أخذ العرب والمسلمون يدرسون ويبحثون. وظهرت فى القرن الأول للهجرة دراسات دينية ولغوية ، إلا أن الحركة العلمية الحقة لم تبدأ إلا فى القرن الثاني ، ثم أخذت تنمو وتترعرع طوال قرون ثلاثة. فامتد نشاطها ، وتنوعت فنونها ، وأمدتها الترجمة بمصادر شتى. وكان للعلوم الطبيعية فيها نصيب ملحوظ ، ولم يكن غريبا أن يبدأ العرب بالعلوم العملية كالطب والكيمياء ، ثم أضافوا إليها دراسات فى الكون والفلسفة الطبعية. وهنا كان المعتزلة روّادا ، كما كانوا دائما فى ميادين أخرى ، وعلى رأسهم أبو الهذيل العلاف (٢٣٤ ه) أول قائل فى الإسلام بنظرية الجزء الذي لا يتجزأ (٢) ، وتلميذه النظام (٢٣١ ه) الذي رفض هذه النظرية ، وقال بالكمون والطفرة (٣) ؛ وكانا يهدفان معا إلى نقض بعض المبادئ التي قامت عليها الفلسفة الأرسطية.
__________________
(١) صاعد الأندلسى ، طبقات الأمم ، القاهرة (بلا تاريخ) ، ص ٧٠.
(٢) الأشعرى. مقالات الإسلاميين. استانبول ١٩٣٠ ، ج ٢ ص ٣١٤.
(٣) محمد عبد الهادى أبو ريده ، إبراهيم بن سيار النظام ، القاهرة ١٩٤٦ ، ص ١١٣ ـ ١٢٩.