وإنّما يرى هؤلاء الأشياء جميعها بخلاف غيره لأنّه لا ينظر إليها من خلال المكان المحدود.
هذه الأمثلة وإن كانت أقلّ بكثير عمّا يناسب ساحته سبحانه غير أنّها تكفي لإلقاء بعض الضوء على الحقيقة ، وتقريب سعة علمه إلى الذهن.
وعلى الجملة فالله المجرّد عن الزمان والمكان ، المجرّد عن كلّ حدّ وقيد ، بما أنّه لا يحيط به شيء ، بل هو المحيط بالأشياء جميعاً ، لا يصحّ في مجال علمه تقديم وتأخير ، وماض وحاضر ، أو حاضر ومستقبل ، بل العالم بأجمعه حاضر لديه وهو يحيط بجميع ما خلق دونما استثناء.
وقد عرفت أنّه لا معنى لحقيقة العلم إلاّ حضور المعلوم لدى العالم ، فبما أنّ وجوده سبحانه وجود غير متناه ، لا يحدّه حدّ ولا يقيّده قيد ، فهو في كلّ الأزمنة والأمكنة ، وحاضر مع كلّ الأشياء والموجودات ، والاّ يلزم أن يكون وجوده محدوداً متناهياً ، وعند ذلك يتحقّق علمه بكلّ حاضر لديه ، وبكلّ ماثل فلا يغيب عن وجوده شيء ولا ذرّة.
وقد أشار الإمام علي عليهالسلام إلى هذه الحقيقة إذ قال :
« إنّ الله عزّ وجلّ أيّنَ الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان ، وهو في كلّ مكان ، بغير مماسة ولا مجاورة ، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره » (١).
إنّ الكون ـ من حيث سعته ، واشتماله على أسرار ورموز ـ أشبه ما يكون بمحيط لا تعرف سواحله التي قد غمرته الظلمة ، وغابت شواطيه في جنح المجهول ،
__________________
(١) الارشاد للمفيد : ص ١٠٨ ، قضايا أمير المؤمنين عليهالسلام.