وهناك طائفة اُخرى عطلوا العقول عن الوصول إلى المعارف نتيجة كون الإنسان يعيش في عالم الطبيعة وقد تطبّع تفكيره على الماديّات والمحسوسات فلا يمكنه إدراك ماوراء ذلك فلابد من التوقف وتعطيل العقول ، وهم الذين يقولون : إنّ كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه (٢).
وقد بنيت الدعوة السلفية في العصور السابقة واللاحقة على هذا الأساس وكأنّ القرآن نزل للتلاوة والقراءة دون التفكّر والامعان والتدبّر.
مع أنّه سبحانه يقول : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد / ٢٤ ).
ويقول : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص / ٢٩ ).
والعجب انّ بعض هؤلاء يتفلسف قائلاً إنّما اُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية فمن شغل ما اعطى لإقامة العبودية بإدراك الربوبيّة ، فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية (٣).
والقائل بهذا الكلام يفسّر العبوديّة بالقيام والقعود والامساك والصيام التي هي من واجبات الأعضاء ولكنّنا نقول لهم : إنّ العبوديّة تقوم على ركنين ركن منه يرجع إلى فرائض الأعضاء وواجباتها ، وركن آخر يرجع إلى العقل واللبّ ، فتعطيل العقول عن معرفة المعبود بالمقدار الذى يستطيع الإنسان الوصول إليه ، تعطيل لاقامة العبودية أو لجزئها.
__________________
(١) « المعطّلة » لقب المعتزلة في كتب الأشاعرة لتعطيلهم الذات عن التوصيف بالصفات غير أنّها لا تتناسب مع عقيدتهم ، والحق إنّ المعطّلة هم الذين وصفناهم هنا.
(٢) الرسائل الكبرى : لابن تيمية ج ١ ص ٣٢ ـ نقله عن سفيان بن عيينة.
(٣) علاقة الاثبات والتفويض نقلا عن الحجّة في بيان المحجّة ص ٣٣.