جروا على ذلك الى أواخر أيامهم ، ومضوا على سياسة كأنها ملهمة ، أو تابعة لطراز عملي ، أو وجهة مبناها الاحتفاظ ب (تقرير ما كان على ما كان) ، فلم يعهد لها الاحتفاظ بسياسة رشيدة أكبر من مراعاة هذه القبيلة ، وملاحظة العنعنات القديمة بين رجالها.
وفي كل أحوالها كانت لها مخصصات التزام تأخذها منها مقررة لا تتجاوزها ولا تتدخل في أمرها ، وإن الأمراء كان ربحهم في هذه المخصصات والاستفادة من عوائدها بصورة متعينة ، فكانت العلاقة محدودة. الأمر الذي جعل قبائل الجاف تسرح وتمرح في هناء ونعيم ، وبنجوة من الموظفين وتدخلاتهم بحيث صارت القبائل الأخرى من الجاف تتوارد بين حين وآخر لأدنى ما ترى من إيران من تضييق أو تشاهد من ضغط حتى تكون اليوم منها قبائل كثيرة مالت من هناك ولجأت الى العراق.
ومن جهة أخرى أن القبائل لا ترى من أمرائها ما هو مشهود في هذه فلا تجد الأمراء يأخذون (شاة مرتع) ، أو تكاليف أخرى تزيد عن المقطوع ، فالجاف كانت تؤدي المقطوع للحكومة ، ولا تزيد الأمراء فيه مهما زادت قبائلها أو تكاثرت. فالأمر الذي جعل تلك القبائل في اتصال وثيق بالأمراء. يزرعون الأراضي العائدة لهم ويؤدون ما يؤديه سائر الزراع بكلفة أقل ، ولا يرهقونهم أكثر مما يتحملون من العوائد. ولم يعرف في أمراء القبائل الأخرى أو رؤسائها ما كان مشهودا منها من جراء الطمع ، ومراعاة سلب القبيلة بقدر الامكان ولحد أقصى حتى لا يبقى مجال لما هو أكثر بقدر الطاقة. ولا حاكم في القبائل الأخرى سوى القوة بخلاف هؤلاء الأمراء فهم بمثابة رأس أسرة ، وكبير عائلة يرأف ولا يقسر ، ويقوي قبيلته ولا يضيق ، وإذا أكل أكل بمعروف.
ذلك ما ولد التفادي ، وهو قليل من كثير ، وهو الذي قوى الألفة ، وحافظ على المجموعة ، فليس هناك آمر ومأمور ، أو قاهر ومقهور ، بل طاعة صادقة وخدمة حقيقية.