الشبهة الأولى :
الوحي النفسي :
قالوا : نحن لا نشك في صدق محمد في خبره عما رأى وسمع ولا نشك في كونه مصلحا اجتماعيا ، وعبقريا فذا ، وإنما نقول أن منبع ذلك إلهام من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال : إنه وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس. فإن هذا الغيب شيء لم يثبت عندنا وجوده ، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ، ويلحقه بالمحال.
فمنازع نفسه العالية وسريرتها الطاهرة ، وقوة إيمانه ، وخياله الواسع وإحساسه العميق ، وعقله الكبير ، وذكاؤه الوقاد ، وذوقه السليم ، مما كان لذلك التأثير بأن يتجلى في ذهنه ، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصور أن ما يعتقده إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة ، أو عن طريق رجل يتمثل له يلقنه ذلك ، أو يسمعه يقول له شيئا في المنام ، والقرآن شيء من هذا الذي يراه ويتخيله وإنما كل ذلك نابع من نفسه ، ومن عقله الباطن ، وصورة لأخيلته ووجدانه التي انطبعت في نفسه بما يحيط بها من شائعات في بيئته على حد تعبير «جب» فامتلأ بها عقله الباطن ففاضت بذلك نفسه ثم صاغها بأسلوبه المؤثر ، وخياله الخصيب ، نتيجة لخلواته الخاصة بغار حراء ، وتأملاته العميقة.
واستدلوا على ذلك بقصة الفتاة الفرنسية «جان دارك» في القرن الخامس عشر الميلادي التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ، ودفع العدو الإنكليزي عنه ، وادعت أنها تسمع صوت الوحي ، فأخلصت في دعوتها ، وتوصلت بصدق إرادتها وحسن سيرتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو ثم خذلها قومها فوقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية فماتت غب انتصارها ، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكره التاريخ(١).
__________________
(١) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص ٩٠ ، والوحي المحمدي ص ٨٩ ، وشبهات مزعومة حول القرآن الكريم للقمحاوي ص ٤١ ، ومقدمة القرآن ، ص ٢٠.