مقابلة الخضرة والبقول ونحو ذلك كسر الخبز لشراء ما يراد ، ولم يزل ذلك إلى نحو السبعين والسبعمائة وأدركنا ريف مصر وأهله يشترون الكثير من الحوائج والمأكولات ببيض الدجاج وبنخال الدقيق ..» (١).
رابعا : الحالة الثقافية في عصر سلاطين الجراكسة
علمنا فيما تقدم أن المماليك كانوا أغرابا عن أهل البلاد التي حكموها ، وأنهم عاشوا في معزل عن طبقات الشعوب المختلفة ، حيث كانوا في أبراج عالية ، وبقية الشعب يعيش في ضحضاح من العيش.
كما علمنا أن المماليك ـ وهم في الأصل رقيق ـ وثبوا على الحكم ، فأخذوه بقوة شوكتهم ، وشدة بأسهم ، ولما كان يشترط في حاكم المسلمين أن يكون حرا غير رقيق ، فقد عمدوا إلى أمرين ، ليخففوا عن طريقهما الانتقاد الموجه إليهم ، وهذان الأمران هما :
١ ـ إحياء الخلافة العباسية ، ونقلها إلى مقر حكمهم في مصر ، وقد تم ذلك ـ كما أسلفنا ـ في سنة ٦٥٦ ه على يد الظاهر بيبرس البندقداري السلطان المملوكي البحري.
٢ ـ والأمر الثاني هو : إحياء العلم والتقرب من أهله ، ومحاولة الظهور أمام الشعوب بالتدين ، وإقامة شعائر الدين ، وسنن الأولين.
وقد «عرف كثير من سلاطين دولة المماليك الجراكسة بحبهم للأدب ومجالس العلم ـ مثل برقوق وشيخ وجقمق وقايتباي والغوري ـ كما بالغ بعضهم في العناية بإنشاء المؤسسات الخيرية من مساجد ومدارس ومستشفيات وسبل وغيرها. وربما كان الهدف من المبالغة في إنشاء هذه المؤسسات والإنفاق عليها هو محاولة بعض السلاطين ـ مثل برقوق وقايتباي ـ التكفير عن ذنوبهم ، ومحو أثر ما قاموا به من أعمال وحشية ضد خصومهم ومنافسيهم» (٢).
وقد ازدهرت الحياة الثقافية بوجه عام في كل من مصر والشام ، حتى غدتا كمنارتين من منارات العلم في ذلك العصر ، ويصور السيوطي ما حظيت به مصر من مكانة مرموقة ، جعلتها رأس الأمة ومركز إشعاعها بعد سقوط الخلافة في بغداد ، فيقول : «.. واعلم أن مصر من حين صارت دار الخلافة عظم أمرها ، وكثرت شعائر الإسلام فيها ، وعلت فيها السنة ، وعفت منها البدعة ، وصارت محل سكن العلماء ، ومحط الرجال الفضلاء. وهذا سر من أسرار الله أودعه في الخلافة النبوية ، حيثما كانت يكون معها الإيمان والكتاب» (٣).
وقد كان لاهتمام سلاطين المماليك بالعلم وأهله دلائل واضحة ، فمن ذلك :
__________________
(١) المقريزي : إغاثة الأمة بكشف الغمة ص ٦٩.
(٢) د. سعيد عاشور : العصر المماليكي ص ١٥٩.
(٣) حسن المحاضرة ٢ / ٩٤.