فصل في وجوه تربية الله لعبده
قال ابن الخطيب (١) ـ رحمهالله تعالى ـ : «وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية ، ونحن نذكر منها أمثله :
الأول : لما وقعت النّطفة من صلب الأب إلى رحم الأمّ ، فربّاها حتى صارت علقة أولا ، ثم مضغة ثانية ، ثم تولّدت منه أعضاء مختلفة ، مثل العظام ، والغضاريف ، والرّباطات ، والأوتار ، والأوردة ، والشرايين ، ثم اتصل البعض بالبعض ، ثمّ حصل في كلّ واحد منها نوع خاصّ من أنواع القوى ، فحصلت القوّة الباصرة في العين ، والسّامعة في الأذن ، والنّاطقة في اللّسان ، فسبحان من بصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم»!.
والثّاني : أن الحبّة الواحدة إذا وقعت في الأرض ، فإذا وصلت نداوة الأرض إليها ، انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلّا من أعلاها وأسفلها ، مع أنّ الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب.
أما الشق الأعلى ، فيخرج منه الجزء الصاعد ، فبعد صعوده يحصل له ساق ، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أوّلا ، ثمّ الثّمار ثانيا ، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة ، واللطافة ، وهي القشور ، واللّبوب ، ثم الأدهان.
وأما الجزء الغائص من الشجرة ، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ، ومع غاية لطفها ، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة ، وأودع فيها قوى جاذبة تجذب اللّطيفة من الطين إلى نفسها ، والحكمة في كلّ هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء ، والإدام ، والفواكه ، والأشربة ، والأدوية ؛ كما قال تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ٢٥ ، ٢٦].
فصل
اختلفوا في الْعالَمِينَ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : «هم الجنّ والإنس (٢) ؛ لأنهم المكلّفون بالخطاب» ؛ قال الله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].
__________________
(١) ينظر الفخر الرازي : ١ / ١٨٨.
(٢) أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٦).