وحيث سماه الله ـ تعالى ـ إنعاما علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ قدر المكلف عليه ، وأرشده إليه ، وأزاح أعذاره وعلله عنه ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار ، فلما خص الله ـ تعالى ـ بعض المكلفين بهذا الإنعام ، مع أن الإقدار ، وإزاجة العلل حاصل في حقّ الكل ، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار ، وإزاحة الموانع.
قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
«غير» بدل من «الذين» بدل نكرة من معرفة.
وقيل : نعت ل «الذين» ، وهو مشكل ؛ لأن «غير» نكرة و «الذين» معرفة (١) ، وأجابوا عنه بجوابين :
أحدهما : أن «غير» إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين ، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية ، فيتعرف «غير» حينئذ بالإضافة ، تقول : «مررت بالحركة غير السكون» والآية من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج ، وهو مرجوح.
والثاني : أن الموصول أشبه النكرات في الإبهام الذي فيه ، فعومل معاملة النكرات.
__________________
(١) النعت والمنعوت كالشيء الواحد لا يكون معرفة نكرة ؛ لما بينهما من التضاد ؛ لأن النّكرة لشياعها كالجمع ، والمعرفة لاختصاصها كالواحد ، فكما لا يمكن أن يكون الواحد جمعا ، والجمع واحدا ؛ لا يمكن أن تكون المعرفة نكرة ، فإذا لم يكن ذلك في الشيء الواحد ، تعذر فيما هما كالشيء الواحد. والدليل على أن النعت والمنعوت كالشيء الواحد : أنك إذا قلت : مررت بزيد الأكحل ، فيتنزل زيد الأكحل عند من لا يعرف الشخص ب «زيد» وحده منزلة «زيد» عند من يعرفه به ؛ لهذا لا تنعت النكرة إلا بنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة.
قال أبو حيان ـ رحمهالله ـ في ارتشاف الضرب : الذي نختاره أنه لا تنعت المعرفة إلا بالمعرفة ، ولا النكرة إلا بالنكرة ، إذا توافقا في الإعراب ، وذهب بعض الكوفيين إلى جواز التخالف بكون النعت نكرة إذا كان لمدح أو ذم ، وجعل منه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ) فالذي وصف لهمزة ، وأجاز الأخفش وصف النكرة بالمعرفة إذا خصصت قبل ذلك بالوصف ، نحو قوله تعالى : (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) قال : الأوليان صفة الآخران ؛ لأنه لما وصف تخصص ، وجوز قوم وصف المعرفة بالنكرة ومنه عندهم قوله :
وللمغنّي رسول الزور قوّاد
فقواد صفة للمغني ، وزعم ابن الطراوة أنه يجوز وصف المعرفة بالنكرة إذا كان الوصف بها خاصا بالموصوف ، وجعل من ذلك : وفي أنيابها السم ناقع.
وقال : ناقع صفة للسم.
وأجيب بالمنع في الجميع بإعرابها أبدالا. وأجيب عن هذا التخالف بما ذكره المصنف.
انظر البسيط شرح الجمل : (١ / ٣٠١ ـ ٣٢٥) ، وارتشاف الضرب : (٢ / ٥٨٠) ، وهمع الهوامع : (٢ / ١١٦ ـ ١١٧).