رسالة الأمير من القصر ، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من علوّ ، فينزل ويؤدي في سفل ، وقول الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ، ويؤدي بلفظ نفسه ، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر.
فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟
قلنا : يحتمل أن يخلق الله ـ تعالى ـ له سمعا لكلامه ، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم ، ويجوز أن يكون الله ـ تعالى ـ خلق في اللّوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص ، فقرأه جبريل ـ عليهالسلام ـ فحفظه ، ويجوز أن يخلق الله
__________________
ـ تيقنه : أن ما ألقي إليه من قبل الله تعالى ؛ وذلك مثل ما ورد في حديث : «إن روح القدس نفث في روعي : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» رواه الحاكم وصححه ، عن ابن مسعود.
٣ ـ الرؤيا في المنام : ورؤيا الأنبياء وحي ؛ وذلك مثل رؤية إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يذبح ابنه ، ورؤية نبينا محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في منامه : أنهم سيدخلون البلد الحرام وقد كان. وفي الحديث الصحيح ، الذي رواه «البخاري» : «أول ما بدىء به رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ..».
٤ ـ تعليم الله أنبياءه بوساطة ملك ، والمختص بذلك من ملائكة الله هو أمين الوحي «جبريل» عليهالسلام ، وهذا القسم يعرف ب «الوحي الجلي».
وقد بين الله ـ سبحانه ـ هذه الأقسام بقوله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ ـ بِإِذْنِهِ ـ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) ؛ إذ المراد بالوحي في الآية : الإلهام أو المنام ؛ لمقابلته للقسمين الآخرين : التكليم من وراء حجاب أو بواسطة رسول.
والوحي الذي بوساطة جبريل .. له حالات ثلاث :
أ ـ أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها ، وهذه الحالة نادرة وقليلة ، وقد ورد عن السيدة «عائشة» : «أن النبي لم ير «جبريل» على هذه الحالة إلا مرتين : مرة في الأرض ، وهو نازل من غار «حراء» ، ومرة أخرى في السماء ، عند «سدرة المنتهى» ليلة المعراج» رواه أحمد.
ب ـ أن يأتي جبريل في صورة رجل كدحية الكلبي ، أو أعرابي مثلا ، ويراه الحاضرون ويسمعون من قوله ، ولا يعرفون هويته ، ولكن النبي يعلم علم اليقين أنه جبريل ؛ وذلك كما في حديث جبريل الطويل في الصحيحين ، وحديث أم سلمة ، ورؤيتها رجلا على صورة دحية الكلبي ، فظنته هو ، حتى بيّن النبي لها أنه جبريل.
ج ـ أن يأتي على صورته الملكية ، وفي هذه الحالة لا يرى ، ولكن يصحب مجيئه صوت كصلصلة الجرس ، أو دوي كدوي النحل ؛ وقد دلّ على هاتين الحالتين حديث سؤال «الحارث بن هشام» النبي صلىاللهعليهوسلم : عن كيفية مجيء الوحي إليه؟ وهو في صحيح البخاري كما تقدم.
والوحي بجميع أنواعه يصحبه علم يقيني ضروري من الموحى إليه ؛ بأنّ ما ألقي إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا نزعات الشيطان ، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدّمات ، وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية ، كالجوع ، والعطش والحب ، والبغض.
ينظر المدخل في علوم القرآن : ص ٨٣ ـ ٨٧.