قالوا : لأن الخبر (١) على هذا الوجه لا يكون صدقا إلّا إذا كان مسبوقا بالمخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير ، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديما ، فيجب أن يكون محدثا.
أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين :
الأول : أن الله ـ تعالى ـ كان في الأزل عالما بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علما بأنه قد حدث في الماضي ، ولم يلزم حدوث علم الله تعالى ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن خبر الله ـ تعالى ـ في الأزل كان خبرا بأنهم سيكفرون ، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبرا عن أنهم قد كفروا ، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟.
الثاني : أن الله ـ تعالى ـ قال : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] ، فلما دخلوا المسجد الحرام ، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول ، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) صيغة جمع مع «لام» التعريف ، وهي للاستغراق بظاهره ، ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر ؛ لأن كثيرا من الكفار أسلموا ، فعلمنا أن الله ـ تعالى ـ قد تكلّم بالعام وأراد الخاص ، إما لأجل أنّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمان الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسن ذلك لعدم اللّبس ، وظهور المقصود ، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز ، وإن لم يكن البيان مقرونا به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق ، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص ، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلا جرم حسن ذلك ، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم. وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف ، والله أعلم.
فصل في المذهب الحق في «تكليف ما لا يطاق»
قال ابن الخطيب (٢) : احتج أهل السّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره : أنه ـ تعالى ـ أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله ـ تعالى ـ الصدق كذبا ، والكذب عند الخصم قبيح ، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما محالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا
__________________
(١) في أ : الخبرية.
(٢) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٣٩.