وقوله : «متى يسترفد القوم أرفد» كناية عن الكرم ، فكأنه قال : لست بخيلا ولكن كريما ، فهي ـ ها هنا ـ واقعة بين ضدّين.
ولا تعمل مخففة خلافا ل «يونس» (١) ، ولها أحكام كثيرة.
ومعنى الاستدراك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر ، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد ، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك ، وأخبر ـ تعالى ـ بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعلموا أن ذلك كما أخبر ـ تعالى ـ وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون ، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بذلك.
ومثله قولك : «زيد جاهل ، ولكن لا يعلم» ، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل ، وصار الجهل وصفا قائما به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوصف من نفسه ؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات ، فاستدركت عليه أنّ هذا الوصف القائم به لا يعلمه مبالغة في جهله.
ومفعول «يشعرون» محذوف : إمّا حذف اختصار ، أي : لا يشعرون بأنهم مفسدون ، وإما حذف اقتصار ، وهو الأحسن ، أي : ليس لهم شعور ألبتة.
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)
الكلام عليها كالكلام على التي قبلها.
و «آمنوا» فعل وفاعل ، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) [البقرة : ١١] والأقوال هناك تعود هنا.
والكاف في قوله «كما آمن» في محلّ نصب.
وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير : آمنوا إيمانا كإيمان النّاس ، وكذلك يقولون في : «سير عليه حثيثا» : أي سيرا حثيثا وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوبا على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم.
__________________
(١) يونس بن حبيب الضبي بالولاء ، أبو عبد الرحمن ، ويعرف بالنحوي : علامة بالأدب ، كان إمام نحاة البصرة في عصره. وهو من قرية «جبّل» على دجلة يبن بغداد وواسط ، أعجمي الأصل ، أخذ عن سيبويه والكسائي والفرّاء وغيرهم من الأئمة ، وكانت حلقته بالبصرة ينتابها طلاب العلم وأهل الأدب وفصحاء الأعراب ووفود البادية. وله كتب منها «معاني القرآن» وغيرها. ولد سنة ٩٤ ه ، وتوفي سنة ١٨٢ ه.
انظر مرآة الجنان : ١ / ٣٨٨ ، نزهة الألبا : ٥٩ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٤١٦ ، الأعلام : ٨ / ٢٦١.