والجواب : أنّ «يستهزىء» يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتا بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة : ١٢٦].
و «الطّغيان» : الضلال مصدر طغى يطغى طغيانا وطغيانا بكسر الطّاء وضمها. وبكسر الطّاء قرأ زيد بن علي (١) ، ولام «طغى» قيل : ياء. وقيل : واو ، يقال : طغيت وطغوت ، وأصل المادّة مجاوزة الحدّ ، ومنه : طغى الماء.
و «العمه» : التردّد والتحيّر ، وهو قريب من العمى ، إلا أن بينهما عموما وخصوصا ؛ لأن العمى يطلق على ذهاب ضوء العين ، وعلى الخطأ في الرأي ، والعمه لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي ، يقال : عمه عمها وعمهانا فهو عمه وعامه.
فصل في الرد على المعتزلة
قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف : ٢٠٣] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم ، فكيف يكون مضافا إلى الله.
وثانيها : أن الله ـ تعالى ـ ذمّهم على هذا الطغيان ، فلو كان فعلا لله ـ تعالى ـ فكيف يذمهم عليه؟
وثالثها : لو كان فعلا لله ـ تعالى ـ لبطلت النبوة ، وبطل القرآن ، فكان الاشتغال بتفسيره عبثا.
ورابعها : أنه ـ تعالى ـ أضاف الطّغيان إليهم بقوله : (فِي طُغْيانِهِمْ) ، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه ـ تعالى ـ غير خالق لذلك ، ومصداقه أنه حين أسند المدّ إلى الشّياطين أطلق الغيّ ، ولم يقيده بالإضافة في قوله : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) إذا ثبت هذا ، فلا بدّ من التأويل ، وهو من وجوه :
أحدها : قال الكعبيّ وأبو مسلم الأصفهاني : إن الله ـ تعالى ـ لمّا منحهم ألطافه التي منحها للمؤمنين ، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مظلمة بتزايد الرّين فيها ، وكتزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمى ذلك النور مددا ، وأسنده إلى الله تعالى ؛ لأنه مسبّب عن فعله بهم.
وثانيها : أن يحمل على منع القسر والإلجاء.
وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى الله ـ تعالى ـ لأنه بتمكينه ، وإقداره ، والتّخلية بينه وبين إغواء عباده.
__________________
(١) وهي لغة يقال : طغيان بالضم والكسر كما قالوا : لقيان ، وغينان بالضم والكسر. انظر البحر المحيط : ١ / ٢٠٣.