ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة ، وقيل : مصيبين في تجارتهم ؛ لأنّ المقصود من التّجارة سلامة رأس المال ، والربح ، وهؤلاء أضاعوا الأمرين ؛ لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع ، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة.
فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال ، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقّة.
وقال قتادة : «انتقلوا من الهدى إلى الضّلالة ، ومن الطاعة إلى المعصية ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السّنّة إلى البدعة».
قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١٧)
اعلم أن المقصود من ضرب المثال أنه يؤثر في القلب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفيّ بالجليّ والغائب بالشاهد ، فيتأكّد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقا للعقل ، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة ، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجردا.
قوله : «مثلهم» : مبتدأ و «كمثل» جار ومجرور خبره ، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب ، ولا مبالاة بخلاف من يقول : إنّ «كاف» التشبيه لا تتعلّق بشيء ، والتقدير : مثلهم مستقر كمثل. وأجاز أبو البقاء (١) وابن عطية (٢) أن تكون «الكاف» اسما هي الخبر ، ونظيره قول الشاعر : [البسيط]
٢٢٠ ـ أتنتهون؟ ولن ينهى ذوي شطط |
|
كالطّعن يذهب فيه الزّيت والفتل (٣) |
وهذا مذهب الأخفش : يجيز أن تكون «الكاف» اسما مطلقا.
وأما مذهب سيبويه فلا يجيز ذلك إلا في شعر ، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال ؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسما لكونها فاعلة ، بخلاف الآية.
__________________
(١) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ١١٣ ، والأشباه والنظائر : ٧ / ٢٧٩ ، والجنى الداني : ٨٢ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٤٥٣ و ٤٥٤ ، ١٠ / ١٧٠ ، والدرر : ٤ / ١٥٩ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٨٣ ، شرح شواهد الإيضاح : ٢٣٤ ، وشرح المفصل : ٨ / ٤٣ ، ولسان العرب [دنا] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٩١ ، والخصائص : ٢ / ٣٦٨ ، ورصف المباني : ١٩٥ ، أمالي ابن الشجري : (٢ / ٢٢٩) والأصول : (١ / ٤٣٩) وشرح جمل الزجاجي : (١ / ٤٧٨) ، وشرح الألفية لابن الناظم : (٣٦٩) ، والدر المصون : ١ / ١٢٨ ، المحرر : ١ / ٩٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٠٩ ، وروح المعاني : (١ / ١٦٣).
(٢) ينظر الاملاء : ١ / ٢٠.
(٣) تقدم برقم (٢٢٠).