حال أيضا ، إما من الضمير في تركهم ، فيكون له حالان ، ويجري فيه الخلاف المتقدّم ، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله ، فتكون حالين متداخلتين.
فصل في سبب حذف المفعول
فإن قيل : لم حذف المفعول من «يبصرون»؟
فالجواب : أنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدّر المنويّ كأنّ الفعل غير متعدّ أصلا.
قال ابن الخطيب (١) : ما وجه التمثيل في أعطي نورا ، ثم سلب ذلك النور ، مع أنّ المنافق ليس هو نور ، وأيضا أن من استوقد نارا فأضاءت قليلا ، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم ، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان ، وأيضا مستوقد النّار قد اكتسب لنفسه النور ، والله ـ تعالى ـ ذهب بنوره ، وتركه في الظّلمات ، والمنافق لم يكتسب خيرا ، وما حصل له من الحيرة ، فقد أتي فيه من قبل نفسه ، فما وجه التّشبيه؟
والجواب : أنّ العلماء ذكروا في كيفية التّشبيه وجوها :
أحدها : قال السّدي : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند وصوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى «المدينة» ثم إنهم نافقوا ، والتشبيه ـ هاهنا ـ في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم أولا اكتسبوا نورا ، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور ، ووقعوا في حيرة من الدنيا ، وأما المتحيّر في الدّين ، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين (٢).
وثانيها : إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا منافقين من أول الأمر ، فهاهنا تأويل آخر.
قال ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي ، والحسن : نزلت في المنافقين يقول : مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مغارة ، فاستدفأ ، ورأى ما حوله فاتّقى مما يخاف ، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، فبقي في ظلمة خائفا متحيرا ، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم ، وأولادهم ، وناكحوا المؤمنين ، وأورثوهم ، وقاسموهم الغنائم ، وسائر أحكام المسلمين ، فذلك نورهم ، فإذا ماتوا عادوا إلى الظّلمة والخوف (٣) ، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدّائم مثل الذّرة ، شبههم بمستوقد النّار الذي انتفع بضوئها قليلا ، ثم سلب ذلك ، فدامت حسرته وحيرته للظّلمة العظيمة التي جاءته عقيب النّور اليسير.
__________________
(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٦٧.
(٢) انظر الدر المنثور : (١ / ٧٢ / ٧٣) للسيوطي.
(٣) ينظر المصدر السابق.