وثالثها : أن نقول ليس التّشبيه في أنّ للمنافق نورا ، بل وجه التّشبيه بالمستوقد أنه لما زال النّور عنه تحيّروا تحيّر من كان في نور ثم زال عنه أشدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة ، لكنه ـ تعالى ـ ذكر النور في مستوقد النّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظّلمة الشديدة ، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة.
ورابعها : قال مجاهد : إنّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به ، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنّفاق ، ومن قال بهذا قال : إن المثل إنما عطف على قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] فالنار مثل لقولهم : «آمنا» وذهابه مثل لقولهم للكفّار «إنا معكم».
فإن قيل : كيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلا بالنور ، وهو حين تكلّم بها أبطن خلافها؟
قلنا : لو ضم إلى القول اعتقادا له وعملا به لأتم النور لنفسه ، لكنه لمّا لم يفعل لم يتم نوره ، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نورا ؛ لأنه قول حقّ في نفسه.
وخامسها : يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان ، وإنما سمى نورا ؛ لأنه يتزين به ظاهرا فيهم ، ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم ، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره ، فيظهر له اسم النّفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان ، فيبقى في ظلمات لا يبصر ؛ إذ النّور الذي كان له قبل كشف الله أمره قد زال.
وسادسها : أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضّلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضّلالة التي اشتروها ، وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في ظلمات.
وسابعها : يجوز أن يكون المستوقد ـ هاهنا ـ مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى ، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، فإنّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤].
وثامنها : قال سعيد بن جبير : نزلت في اليهود ، وانتظارهم لخروج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لإيقاد النّار ، وكفرهم به بعد ظهوره ، كزوال ذلك النور ؛ قاله محمد بن كعب ، وعطاء.
والموقود ـ هنا ـ هو سطوع النّار وارتفاع لهبها.
والنّار : جوهر لطيف مضيء حام محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ؛ لأن فيها حركة واضطرابا ، والنور مشتق منها ، وهو ضوؤها ، والمنار العلامة ، والمنارة هي الشّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضا للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة ، ومنه النّورة لأنها