ومن منع جريانه مجرى «صار» جعل المنصوب حالا.
فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم
لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون ، وينطقون ، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلّا تشبيه حالهم لشدة تمسّكهم بالعناد ، وإعراضهم عن سماع القرآن ، وما يظهره الرسول من الأدلّة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب ، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة ، ولم يبصر طريق الرشد ، فهو بمنزلة الأعمى.
وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : من التمسّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبدا.
وقيل : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضّلالة بعد أن اشتروها.
وقيل : أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟
قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)
اعلم أنّ هذا مثل ثان للمنافقين ، وكيفية المشابهة من وجوه :
أحدها : أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق ، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل ، وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت ، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فإذا أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة ، فوقفوا متحيّرين ؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه
__________________
وأبو داود في السنن حديث رقم (٤٦٨٦).
والترمذي في السنن حديث رقم (٢١٩٣).
والنسائي في السنن (٧ / ١٢٦ ، ١٢٧).
وابن ماجه في السنن حديث رقم (٣٩٤٢) ، (٣٩٤٣).
وأحمد في المسند (١ / ٢٣٠ ، ٤٠٢) ، (٢ / ١٠٤) ـ والبيهقي في السنن (٥ / ١٤٠ ، ١٦٦) ، (٦ / ٩٢) ، (٨ / ١٨٩).
والطبراني في الكبير (٢ / ٣٤٨ ، ٣٨٣) ، (٨ / ١٦١) ، (١٠ / ١٩٢) ، (١٢ / ٢٨٢ ، ٣٥٩ ، ٣٦٢ ، ٤١٦) ـ وابن عدي في الكامل (٧ / ٢٥٩٣) والحاكم في المستدرك (١ / ٩٣) ـ وذكره المنذري في الترغيب (١ / ١٣٢) ـ وابن حجر في فتح الباري (١ / ٢١٧) ، (١٠ / ٥٥٣) ، (١٢ / ١٩١) ، (١٣ / ٢٦) ـ والسيوطي في الدر المنثور (٣ / ٢٠ ، ٢٣٥).