فصل في الاستدلال بالآية على الصانع
هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار ، سأل بعض الدهرية الشّافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما الدّليل على الصانع؟ فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا : نعم.
قال : فتأكلها دودة القزّ فيخرج منها الإبريسم ، ويأكلها النحل فيخرج منها العسل ، والشّاة فيخرج منها البعر ، وتأكلها الظّباء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه ، وكانوا سبعة عشر.
وسئل أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ عن الصّانع فقال : الوالد يريد الذكر ، فيكون أنثى ، وبالعكس فيدلّ على الصّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ، ظاهرها كالفضّة المذابة ، وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بدّ من الفاعل ؛ عنى بالقلعة البيضة ، وبالحيوان الفرخ.
وقال آخر : عرفت الصّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل ، وبالآخر لسع ، والعسل مقلوب لسع.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم.
والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله ـ تعالى ـ خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم ؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة.
وأيضا أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، كأنه ـ تعالى ـ يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت ، بل كنت منعما عليك قبل أن وجدت بألوف سنين ، بسبب أني كنت خالقا لأصولك.
فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما وجهه؟
والجواب من وجهين :
الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتّقاء هو الاحتراز عن المضارّ ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز ، بل موجب الاحتراز ، فإنه ـ تعالى ـ قال : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لتحترزوا به عن عقابه.
وإذا قيل في نفس الفعل : «إنه اتقاء» ، فذلك غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه.