الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢٧)
اعلم أنّه ـ تعالى ـ لمّا بيّن كون القرآن معجزا ، أورد الكفّار هنا شبهة قدحا في ذلك ، وهي أنّه جاء في القرآن ذكر النّحل ، والعنكبوت ، والنّمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء ، فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته ، فضلا عن كونه معجزا ، وأجاب الله ـ تعالى ـ عنه بأنّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة ، إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة ، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلّق هذه الآية بما قبلها.
روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنّه لما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] فطعن في أصنامهم ، ثمّ شبّه عبادتها ببيت العنكبوت.
قالت اليهود : أي قدر للذّباب والعنكبوت حتّى يضرب الله المثل بهما؟! فنزلت هذه الآية(١).
وقيل : إنّ المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنّار ، والظلمات ، والرّعد ، والبرق في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) قالوا : الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية (٢) ، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس.
وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضا أنّ هذا الطعن كان من المشركين (٣).
فقال القفّال رحمهالله : الكلّ محتمل هاهنا. أمّا اليهود ، فلأنه قيل في آخر الآية : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) وهذا صفة اليهود ؛ لأنّ الخطاب بالوفاء بالعهد إنّما هو لبني إسرائيل ، وأمّا الكفّار والمنافقون فقد ذكروا في سورة «المدثر» : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١] ، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المنافقون ، والذين كفروا يحتمل المشركين ، لأنّ السورة مكّيّة ، فقد جمع الفريقان هاهنا.
إذا ثبت هذا ، فنقول : احتمال الكلّ هاهنا قائم ؛ لأنّ الكافرين والمنافقين واليهود
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٨٨) وعزاه لعبد الغني الثقفي في «تفسيره» والواحدي عن ابن عباس.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٨٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة.
(٣) أخرجه عبد الغني الثقفي في «تفسيره» والواحدي كما في «الدر المنثور» (١ / ٨٨) عن ابن عباس.