كانوا متوافقين في إيذاء الرّسول ، وقد مضى من أوّل السّورة إلى هذا الموضع ذكر المنافقين ، واليهود ، والمشركين ، وكلّهم من الّذين كفروا.
ثمّ قال القفّال : «وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب ؛ لأنّ معناه مفيد في نفسه».
فصل في معنى الحياء واشتقاقه
الحياء : تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم (١) ، واشتقاقه من الحياة ، ومعناه على ما قال الزمخشري : نقصت حياته ، واعتلت مجازا ، كما يقال : نسي وخشي ، وشظي القوس : إذا اعتلت هذه الأعضاء ، جعل الحييّ لما يعتريه من الانكسار ، والتّغيّر منتكس (٢) القوة منتقص الحياة كما قالوا : فلان هلك من كذا حياء ، ومات حياء ، وذاب حياء ، يعني بقوله : «نسي وخشي وشظي» أي : أصيب نساه ، وهو «عرق» وحشاه ، وهو ما احتوى عليه البطن ، وشظاه وهو عظم في الورك ، واستعماله هنا في حقّ الله ـ تعالى ـ مجاز عن التّرك.
وقيل : مجاز عن الخشية ؛ لأنّها أيضا من ثمراته ، ورجّحه الطّبريّ ، وجعله الزمخشريّ من باب المقابلة ، يعني أنّ الكفّار لمّا قالوا : أما يستحي ربّ محمد أن يضرب المثل بالمحقّرات ، «قوبل» قولهم ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) ؛ [ونظيره قول](٣) أبي تمّام : [الكامل]
٣٢٢ ـ من مبلغ أفناء يعرب كلّها |
|
أنّي بنيت الجار قبل المنزل (٤) |
لو لم يذكر بناء الدّار لم يصحّ بناء الجار.
وقيل : معنى لا يستحيي ، لا يمتنع ، وأصل الاستحياء الانقباض عن الشّيء ، والامتناع منه ؛ خوفا من مواقعة (٥) القبيح ، وهذا محال على الله تعالى ، وفي «صحيح مسلم» عن أم سلمة قالت : «جاءت أم سليم إلى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله إنّ الله لا يستحي من الحقّ» (٦) المعنى لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يمتنع من ذكره.
قال ابن الخطيب : «القانون في أمثال هذه الأشياء ، أنّ كلّ صفة ثبتت للعبد مما يختص (٧) بالأجسام ، فإذا وصف الله بذلك ، فذلك محمول على نهايات الأعراض ، لا
__________________
(١) في أ : وقد تقدم.
(٢) في أ : منكس.
(٣) في ب : ونظيره بقوله.
(٤) ينظر البيت في ديوانه : ٣ / ٤٧ ، الكشاف : ١ / ١١٣ ، الدر المصون : ١ / ١٦٣.
(٥) في أ : موافقة.
(٦) أخرجه البخاري : (١ / ٤٦ ، ٨٠) ومسلم (١ / ١٧٢) والنسائي (١ / ٤٢).
(٧) في ب : ينتقص.