من ذلك ، كلّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح ، وضرب المثل بالبعوضة ؛ لأنّه من عجائب خلق الله تعالى ؛ فإنه صغير جدّا ، وخرطومه في غاية الصغر ، ثمّ إنّه مع ذلك مجوّف ، ثمّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره ، وكونه مجوّفا يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص ، وذلك لما ركّب الله في رأس خرطومه من السم.
قوله : (فَما فَوْقَها) قد تقدّم أنّ «الفاء» بمعنى «إلى» ، وهو قول مرجوح جدّا ، و «ما» في «فما فوقها» إن نصبنا «بعوضة» كانت معطوفة عليها موصولة بمعنى «الذي» ، وصلتها الظّرف ، أو موصوفة وصفتها الظرف أيضا ، وإن رفعنا «بعوضة» ، وجعلنا «ما» الأولى موصولة أو استفهامية ، فالثانية معطوفة عليها ، لكن في جعلنا «ما» موصولة يكون ذلك من عطف المفردات ، وفي جعلنا إيّاها استفهامية يكون من عطف الجمل ، وإن جعلنا «ما» زائدة ، أو صفة لنكرة ، و «بعوضة» خبرا ل «هو» مضمرا كانت «ما» معطوفة على بعوضة.
فصل في معنى قوله : «فما فوقها»
قال الكسائيّ وأبو عبيدة ، وغيرهما : معنى «فما فوقها» والله أعلم : ما دونها في الصّغر ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول ؛ لأنّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان ، وكلّما كان المشبّه به أشدّ حقارة كان المقصود أكمل حصولا في هذا الباب.
وقال قتادة ، وابن جريج : «المعنى في الكبر كالذّباب ، والعنكبوت ، والكلب ، والحمار ؛ لأنّ القوم أنكروا تمثيل الله بتلك الأشياء».
قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
«أمّا» حرف ضمّن معنى اسم شرط وفعله ، كذا قدّره سيبويه قال : «أمّا» بمنزلة مهما يك من شيء.
وقال الزّمخشريّ (١) : وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد ، تقول : زيد ذاهب ، فإذا قصدت توكيد ذلك ، وأنّه لا محالة ذاهب ، قلت : أمّا زيد فذاهب.
وقال بعضهم : «أمّا» حرف تفصيل لما أجمله المتكلم ، أو ادّعاه المخاطب ، ولا يليها إلّا المبتدأ ، وتلزم الفاء في جوابها ، ولا تحذف إلّا مع قول ظاهر ومقدّر كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي : فيقال لهم : أكفرتم ، وقد تحذف حيث لا قول ؛ كقوله : [الطويل]
٣٢٩ ـ فأمّا القتال لا قتال لديكم |
|
ولكنّ سيرا في عراض المواكب (٢) |
__________________
(١) ينظر الكشاف : ١ / ١١٧.
(٢) البيت للحارث بن خالد المخزومي ينظر ديوانه : ص ٤٥ ، وخزانة الأدب : ١ / ٤٥٢ ، والدرر : ٥ / ـ