فصل في ماهية الملائكة
اختلفوا في ماهيّة الملائكة ، وحقيقتهم ، والضابط فيه أن يقال : إن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها ، وهي إما متحيّزة ، أو ليست بمتحيّزة ، فإن كانت متحيّزة فهاهنا أقوال :
أحدها : أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكّل بأشكال مختلفة مسكنها السموات ، وهذا قول أكثر المسلمين.
الثاني : قول طوائف من عبدة الأوثان : أن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد ، والإنحاس ، فالمسعدات منها ملائكة الرّحمة ، والمنحسات منها ملائكة العذاب.
الثالث : قول معظم المجوس ، والثنوية : وهو أن هذا العالم مركّب من أصلين أزليين ، وهما النور والظّلمة ، وهما في الحقيقة جوهران شفّافان مختاران قادران ، متضادا النّفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النّور فاضل خيّر ، نقيّ طيّب الريح ، كريم النفس يسر ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويحيا ولا يبلى ، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك.
ثم إنّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء ، وهم الملائكة لا على سبيل التّناكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم ، والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء ، وهم الشياطين على سبيل تولّد السّفه من السفيه لا على سبيل التناكح.
القول الثاني : وهو أنها ذوات قائمة بأنفسها ، وليست بمتحيّزة ، ولا بأجسام. فهاهنا قولان :
الأول : قول طوائف من النّصارى ، وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس النّاطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية ، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.
والثاني : قول الفلاسفة وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ألبتة ، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس النّاطقة البشرية ، وأنها أكمل قوة منها ، وأكثر علما منها ، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشّمس بالنسبة إلى الأضواء ، ثم إنّ هذه الجواهر على قسمين : منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة الله ، ومحبته ومشتغلة بطاعته ، وهذا القسم هم الملائكة المقرّبون ، ونسبتهم إلى الملائكة الّذين يدبرون السّماوات ، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا النّاطقة ، فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ، ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة ، وهي الملائكة الأرضية المدبّرة لأحوال هذا العالم السفليّ ، ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة ، وإن كانت شريرة فهم الشياطين.