الثاني : أن «إبليس» قال : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] أي : أن كونه مسجودا يدلّ على أنه أعظم حالا من السّاجد ، ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يصلّي إلى الكعبة ، ولم تكن الكعبة أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام.
والجواب عن الأول : أنه كما يجوز أن يقال : صلّيت إلى القبلة ، جاز أن يقال : صلّيت للقبلة ؛ قال تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] والصّلاة لله لا للدّلوك ؛ وقال حسان : [البسيط]
٣٨٣ ـ ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف |
|
عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن |
أليس أوّل من صلّى لقبلتكم |
|
وأعرف النّاس بالقرآن والسّنن (١) |
والجواب عن الثاني : لا نسلم أن التكرّم حصل بمجرد ذلك السّجود ، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر.
والقول الثاني : أن السجدة كانت لآدم تعظيما له وتحيّة له كالسّلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السّالفة تفعل ذلك.
قال قتادة : قوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] كانت تحيّة الناس يومئذ.
الثّالث : أنّ السجود في أصل اللّغة : هو الانقياد والخضوع ، ومنه قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦].
واعلم أن القول الأوّل ضعيف ، لأن المقصود تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام ، وجعله مجرّد القبلة لا يفيد تعظيم حاله.
والقول الثالث : ضعيف أيضا ؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ؛ لأن الأصل عدم التغيير.
فإن قيل : السجود عبادة ، والعبادة لغير الله لا تجوز.
فالجواب : لا نسلم أنه عبادة ؛ لأن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيدا كالقول ، كقيام أحدنا للغير يفيد من الإعظام ما يفيده القول ، وما ذاك إلا للعادة ، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيدا ضربا من التعظيم ، وإن لم يكن ذلك عبادة ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله الملائكة بذلك إظهارا لرفعته وكرامته.
فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة
قال أكثر أهل السّنة : الأنبياء أفضل من الملائكة.
__________________
(١) ينظر الرازي : ٢ / ١٩٥.