والملائكة كانوا موجودين ، فيلزم أن يكون الله ـ تعالى ـ قد اصطفى هؤلاء على الملائكة ، وأيضا فهب أن تلك الآية دخلها التخصيص لقيام الدليل ، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر ، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم.
وخامسها : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] والملائكة من جملة العالمين ، فكان محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ رحمة لهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم.
وسادسها : أنّ الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة ، والفعل مع المعارض القوي أشدّ منه بدون المعارض.
فإن قيل : الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية ، وهي شهوة الرئاسة.
قلنا : هب أن الأمر كذلك ، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج ، وشهوة الرئاسة والملك ليس له إلا شهوة واحدة ، وهي شهوة الرئاسة ، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة. وأيضا الملائكة لا يعملون إلّا بالنّص لقوله : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] وقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] والبشر لهم قوّة الاستنباط والقياس ، والعمل بالاستنباط أشقّ من العمل بالنص ، وأيضا فإنّ الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة ؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السّيّارة أسبابا لحوادث هذا العالم ، فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشّبهة ، والملائكة لا يحتاجون إليها ، لأنهم ساكنون في عالم السّماوات ، فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبّر الصّانع ، وأيضا فإن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة ، وهو مسلّط على البشر في الوسوسة ، وذلك تفاوت عظيم. إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ ، فوجب أن يكونوا أكثر ثوابا للنص والقياس.
فأما النص قوله عليه الصلاة والسلام : «أفضل العبادات أحمزها» أي : أشقّها ، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له ميل إلى النّساء إذا امتنع عن الزّنا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع الميل الشّديد ، والشّوق العظيم.
وسابعها : أن الله ـ تعالى ـ خلق للملائكة عقولا بلا شهوة ، وخلق للبهائم شهوة بلا عقل ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين ، فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجة ، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ، ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله ، فإنه يصير دون البهيمة على ما قال : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) فيجب أن يقال : إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتبارا لأحد الطرفين بالآخر.
وثامنها : أن الملائكة حفظة ، وبنو آدم محفوظون ، والمحفوظ أشرف من الحافظ ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول ، فقالوا : قد سبق بيان أنّ من الناس من قال :