وقال آخرون : إنّ «كان» ها هنا بمعنى «صار» فيكون معنى الآية صار من الذين وقعوا في الكفر بعد ذلك ، وأنه كان قبل ذلك مؤمنا ، وهذا قول «الأصمّ» ، وذكر في مثاله قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين ، وأيضا فإن هذه إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية ، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهيّة ، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولا يصح أن يقال : إنه فرد من أفراد الحيوان ، لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن ، بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية. واعلم أنه يتفرع على هذا أن «إبليس» هل كان أول من كفر بالله؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله.
فصل في بيان أن الأمر كان للملائكة كلهم
قال الأكثرون : إن جميع الملائكة كانوا مأمورين بالسّجود لآدم ، واحتجوا عليه بوجهين :
الأول : أن لفظ الملائكة صيغة جمع ، وهي تفيد العموم ، لا سيما وقد أكدت بأكمل وجوه التوكيد في قوله : «كلّهم أجمعون».
الثاني : أن استثناء «إبليس» منهم ، واستثناء الشخص الواحد منهم يدلّ على أن من عدا ذلك الشخص يكون داخلا في ذلك الحكم ، ومن الناس من أنكر ذلك ، وقال : المأمور بهذا السّجود هم ملائكة الأرض ، واستعظم أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك.
وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الرّوحانية ، وقالوا : يستحيل أن تكون الأرواح السّماوية منقادة للنفوس الناطقة ، إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى البشرية المطيعة للنفس الناطقة ، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات.
قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(٣٥)
الجملة من قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) معطوفة على جملة «إذ قلنا» لا على «قلنا» وحده لاختلاف زمنيهما.
و «أنت» توكيد للضمير المستكنّ في «اسكن» ليصح العطف عليه (١) «وزوجك»
__________________
(١) وحاصل المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوبا ، ونعني بواجب الاستتار : ما لا يحلّ محلّه الظاهر ، وهي أربعة : ـ